ما أجمل تاج الشيب وهو يكلل الإبداع ..
ما أبدع الذاكرة وهي تحفظ في الشيخوخة تاريخ الصبا، فلا تنسى صديقاً ولا تهمل واقعة تجمل الحياة باستعادة رفاق العمر والكتابات الأولى التي تبقى محفورة في الوجدان حتى لو نسيها الآخرون.
ما أبهى اميلي نصر الله وهي تتخطى ثمانينها بسنوات ويبقى قلبها نابضاً بحب الناس، كل من صادفتهم فصادقوها وتقربوا منها معجبين بشخصيتها التي أضاف اليها قلمها ألق المحبة والإيمان بالإنسان.
أميرة الكلمة التي أبصرت النور في قرية مجهولة اسمها “الكفير” تقع على خط النور الذي يغمر بلاد الشام، بسوريا وفلسطين ولبنان، وعلى خط التواصل بين الأديان والطوائف والمذاهب .. وربما لهذا لم تعرف الطائفية، ولا هي عرفت التعصب الجهوي.
هي جنوبية ـ بقاعية ـ “بيروتية” بمعظم عمرها في عاصمة الكلمة. وهي “مصرية” عبر التحاقها برفيق عمرها فيليب الذي سيغير كنيتها من أبي راشد الى نصر الله، وأبنائها الذين انبتوا الصحراء ورداً وزيتوناً وعنباً وخمراً وديوكاً زاهية بألوان أعرافها فوق ريشها المزركش ورؤوسها المرفوعة افتخاراً أمام جواريها اللواتي يتزاحمن عليها ..
وهي “كندية” بعد استقرار معظم أهلها فيها وإنشائهم “الكفور” الثانية، مستذكرين معها وفيها المناضل العربي الراحل، لبناني المولد سوري الموقع الممتاز في الدولة الشقيقة، وأحد حراس فلسطين على المستوى الدولي، فارس الخوري.
اميلي نصر الله عرفتها أول مرة، محررة في مجلة “الصياد” في الحازمية تخضع لرعاية سعيد فريحة المباشرة، وتعمل بدأب بحيث تكاد لا ترفع رأسها عن أوراقها، حتى إذا ما انتهت من تحرير “بابها” في المجلة، انطلقت الى الجامعة الأميركية في بيروت بغير أن تتلفت حولها حتى لا تخدش حياءها الريفي الذي سبقها الى العاصمة.
وبرغم حيائها الصامت، وخجلي من احراجها اذا ما أضفت كلمة الى تحية الصباح، فقد غدونا ـ بشكل ما ـ اصدقاء .. ربما لأنها أحست انني أقدر دأبها وسلوكها “المحافظ”، وربما لأنها كانت تنتبه الى انني أعمل ـ منفرداً، تقريباً، لإصدار المجلة، وبمرتب يدفع أقساطاً بحيث يصل الشهر التالي قبل أن يكتمل حصولي على راتب الشهر الماضي.
بعد ذلك ستتباعد المسافات بيننا بعدما تركت “الصياد”. ولكنني حين عدت اليها، بعد سنتين إلا قليلاً، وجدت الآنسة اميلي أبي راشد قد باتت السيدة اميلي نصر الله بعد زواجها من المهندس ولاّد المشروعات فيليب نصر الله، الزحلاوي حتى العظم.
وتجددت اواصر الصداقة واتخذت بعداً عائلياً مع العائلة، “الصهر” ـ كما كنت أناديه ـ والسيدة والدته اضافة الى الزميلة التي غدت روائية مع إصدارها روايتها الأولى “طيور أيلول”.
نجحت الرواية نجاحاً ملحوظاً، ووجدت من يترجمها الى أكثر من “لغة حية”، وغدت الريفية القادمة من الكفير مثالاً مميزاً للأديبة التي ساوت بين إنجاب الأطفال وإنجاب القصص والروايات.
بعد ذلك ستتوالى الروايات … ثم ستنتبه اميلي نصر الله الى الأطفال فتنتج لهم مكتبة كاملة، والى النساء فتشارك في ما يتناسب مع قيمتها من انشطة.
ولقد ترجمت مؤلفات اميلي نصر الله الى بضع لغات، بينها الفرنسية والانكليزية والإيرانية ومن ثم الألمانية.
آخر حفلات التكريم أقامها معهد غوته الألماني حيث دعاها الى مقره، في مدينة فايمار على مبعدة خمس ساعات تقريباً من فرانكفورت. ولقد صحبتها عائلتها جميعاً: الأبناء والبنات والأحفاد بحيث شكلوا قافلة من الفرح والحب الصافي والتقدير الى حد الفخر بهذه الأم المبدعة والجدة التي قهرت السنين بالصمود واستمرت تنتج وتفرح بالطبعات الجديدة لإبداعاتها القديمة ومحاولة إبداع الجديد .. ولو شفهياً.
لك العمر، أيتها الصديقة التي أفخر انني قد زاملتها، ورافقت مسيرة “فيليب”، زوجها الراحل، وعرفت أبناءها وبناتها ثم أحفادها وهم اطفال، ثم وهم يتقدمون ويحققون نجاحاً باهراً في مختلف ميادين الانتاج.