طلال سلمان

عن الواقع العربي المهين.. و”حلم” المستقبل الافضل

من اليمن إلى ليبيا، مروراً بالعراق وسوريا فلبنان الذي يهتز ولا يسقط فإلى مصر التي تعاني من ارهاب القتل، فإلى تونس التي تكافح للاستقرار في قلب ماضيها، فإلى الجزائر الغائبة عن الوعي مع رئيسها المشلول، يتبدى الوطن العربي عالماً من الفوضى التي تتهدد مستقبله بالضياع.

لا احد يملك تصوراً للغد، لا مشروع تغيير جدي، لا قوى سياسية مؤهلة كبديل يُنهي حالة الفوضى الدموية القائمة..

تكاد الفوضى الدموية تدمر الحاضر وتهدد المستقبل.

بات “العربي” على اتساع ارض “الوطن العربي” يهرب من هويته، يتنصل من ذوي قرباه، مستعد لان يقبل أية هوية يمكنه الحصول عليها بالثمن، ومستعد لان يركب مخاطر الغرق في البحر للنجاة بنفسه وبعائلته، مستعد لان يعمل في أي مجال يقبله بطعامه ومأواه، ولو بلا ضمان.

هان على الانسان العربي انتماؤه القومي، هان عليه أهله، هانت عليه قضاياه المقدسة بعنوان فلسطين… صار همه الحصول على جنسية أخرى بالثمن، على وطن بديل بالمهانة والاذلال.

لم تعد أرضه أرضه. فقد اعتداده بالانتماء اليها. لم تعد دولته دولته. بات احساسه بانه فاقد الكرامة فيها، مُهان ومُهدد دائماً.

صار الماضي عبئاً عليه، يهرب منه ويكاد ينكره. يشعر انه ضئيل ازاء ما يسمعه عن ايام زمان، ايام الشعارات التي كانت تملأ الميادين هتافاً بالأمل. ايام كان له عدو يهدد وطنه وحياته فيه ويستعد لمواجهته لكي يحرر نفسه قبل ارضه.

هي لغة قديمة هذه التي يرطن بها الآن. الحرية، التحرر، تحرير الارض والارادة. الكرامة الوطنية، الوحدة العربية، تحرير فلسطين.

كم ارضاً عليه أن يحرر الآن، بدءاً باليمن وانتهاء بالمغرب؟

قبل ذلك: ما دخله باليمن البعيدة خلف الصحارى البلا حدود وخلف البحار التي باتت تحت عين العدو الاسرائيلي… صحيح أن غارات الطيران الحربي الشقيق المتحالف مع الكوليرا يهدد الملايين من اهلها، لا سيما الاطفال، لكن مندوب الامم المتحدة يروح ويجيء فلا يتوقف القتل اليومي ولا يجد المرضى الدواء.

ثم ما دخله بالعراق والحرب على “داعش” والخلافات بين السنة والشيعة، والنفوذ الايراني والوجود الاميركي الذي كان “احتلالاً واستعماراً” فصار نجدة كريمة لتخليص ارض الرافدين من الارهاب الاسلامي..

وما دخله بسوريا التي طالما لعبت دور المحرض على المقاومة بمواجهة الاستعمار القديم، ثم بالتصدي للاستعمار الجديد ممثلاً بالعدو الاسرائيلي ودولته الام ـ الولايات المتحدة الاميركية. أن سوريا مهددة، الآن، في كيانها ذاته وليس في دورها كمحرض على الوحدة العربية وكداعية للاشتراكية والتي لا يكاد شعبها يخرج من الشارع حتى يعود اليه، ولا يتأخر عن نجدة مصر بل والتطوع للذهاب إلى القتال ضد المستعمر الفرنسي في الجزائر الذي حاول أن يلغي هويتها الاصلية وانتماءها العربي؟

ما دخله بليبيا التي تلاعب معمر القذافي بوحدة شعبها، وفضل التعامل مع القبائل، وركبه غرور الغني المستغني عن الآخرين بثروة بلاده في نفطها وموقعها و”غياب” المحيط.

ما دخله بتونس التي بشر شعبها بالثورة عبر شهيدها الصارخ في البرية محمد البوعزيزي في 17 كانون الاول (ديسمبر) 2010، والتي سرعان ما ضربها الخدر فعادت إلى افياء البورقيبية كما في الخمسينات والستينات.

ثم ما دخله بجزائر عبد العزيز بوتفليقة الذي يحكم بلد المليون شهيد من كرسيه المتحرك، يرفض أن يتقاعد او يستريح فيريح، ويحكم على بلاده بالغياب عن الدور والتأثير، ويخرج مليون جزائري جديد من الشباب مستقبلين رئيس دولة الاستعمار الفرنسي الذي استطال فيها لمدة مائة وخمسين سنة هاتفين: فيزا، فيزا… لأنهم يريدون الذهاب إلى بلاد مستعمرهم السابق ليعملوا في تنظيف الشوارع والمجارير وسائر ما يأنف من القيام به الفرنسيون؟

أما المغرب فقد أبعد نفسه منذ زمن بعيد عن “الشرق” وقرر مليكه الشاب أن يحتفظ بقصوره لمصيف ملوك النفط وامرائه من اهل الجزيرة والخليج، بعيداً عن السياسة ومشاكلها، محافظاً على علاقاته مع العدو الاسرائيلي إلى حد استقبال بعض وفوده الرسمية، برغم اعتراض الشعب على هذه العلاقة، متذرعاً بأن له اكثر من مئتي الف مواطن من اليهود المغاربة قد باتوا اسرائيليين.. ولا يجوز التخلي عنهم!

وأما مصر التي يضربها الارهاب مراراً وتكراراً، مُضيفاً إلى مشكلاتها الكثيرة، من التزايد الهائل في عدد السكان الذي يلتهم الدخل القومي فيلجئها إلى الاستدانة التي يصعب سداد اقساطها، فتذهب بقيمة العملة متسببة في المزيد من المشكلات الاجتماعية والاقتصادية.. ومعها جميعاً او فوقها مشكلة سد النهضة في اثيوبيا الذي يهدد اهل مصر بالعطش وسدها العالي بافتقاد وظيفته ومواسم ارضها المعطاء بالبوار..

..ولقد كان لبنان المثقل بنظامه الطوائفي يحاول حماية ذاته بشعار “النأي بالنفس”، وهو شعار كاريكاتوري في ظل الصراع العربي ـ العربي الذي أهمل فلسطين وتحول إلى صراع بين من كانوا اهل الثورة ومن صاروا اهل الثروة، وهو صراع يتجاوز الاخوة وموجباتها، إلى مشاريع الهيمنة وتحكم الاغنياء بالفقراء، والاجنبي حاضر دائماً، واسرائيل لا تتعب من جني الارباح نتيجة هذه الخلافات التي تضرب بالحائط روابط الاخوة ووحدة المصير، وتخلخل قانون الجاذبية فيطمع الصغير بأن يستتبع الكبير باستغلال حاجته، خصوصاً وان هذا الصغير الغني بأكثر من قدرته على التصرف بثروته قد اسقط الحواجز مع الاعداء جميعاً من “الامبريالية” التي تعينه وتحميه بالثمن الباهظ، إلى اسرائيل التي تحاول استدراجه بوصفها أقوى قوة في “المنطقة”، وبالتالي فهي ملجأ الامان واستقرار استمتاعه بالثروة بعيداً عن الاشقاء الفقراء وبينهم الطامع والحاسد والمتسول وعارض الخدمات لحماية الأخ الأغنى وتأمين رخائه.. من موقع الجند المرتزقة!

إلى أين من هنا؟

الصورة كالحة السواد، في هذه اللحظة.. فالدول الفاعلة في المنطقة العربية مُغيبة بحروبها ضد الارهاب، وبين مشتقاته وأخطرها الفتنة التي كادت تفتك بكل من سوريا والعراق، سواء تحت عنوان “داعش” او غيرها من العصابات المسلحة بالشعار الاسلامي وكافة انواع السلاح الفتاك… بل هي قد تمددت فضربت في مصر ضربات موجعة، وهددت استقرار لبنان بالفتنة، وأفادت من فوضى السلاح العارمة في ليبيا، خصوصاً وقد وجدت دولاً عربية تشجعها فتسلحها وتمولها فتتخذ منها متكأ للمشاغبة على مصر، واشغالها بنفسها عن دورها الذي لا تعوضه فيه دولة أخرى، ومحاولة استرهانها بالمساعدات المشروطة.. والتي لا تكفي، حتى لو قبلت، لبناء الدولة التي تريدها مصر، ويريدها سائر العرب لمصر..

*****

قد تكون صورة الواقع العربي قاتمة، وسوادها يظلل المستقبل ويحجب عنه أضواء الأمل.

لكن للشعب العربي في كل قطر من اقطار هذه الامة ارادته وقدراته المعطلة والتي يشهد لها التاريخ القريب (الخمسينات والستينات) باستعدادها للبذل والعطاء حتى اسقاط المستحيل، بشهادة مصر، وحتى سوريا والعراق..

إن هذا الشعب العربي لا يبخل حتى بالروح حين يسمح له بأن يمارس وجوده الفاعل، ويعيش في مناخ من الحرية والاحساس الثابت بالكرامة واحترام إرادته..

وهذا شعب مصر قد اثبت ارادته مراراً، من خلال مقاومة العدوان الثلاثي في العام 1956، ثم في مواجهة آثار النكسة في 5 حزيران (يونيه) 1967، ثم في الحرب المجيدة التي اغتيلت نتائجها قبل الوصول اليها، في تشرين الاول (اكتوبر 1973) .

كذلك شعب سوريا الذي قاتل عدوه الاسرائيلي بكفاءة كلما تمكن من ذلك بشهادة حرب اكتوبر ذاتها (1973).

وشعب العراق قد انتصر على الفتنة التي اريد له أن يندفع اليها، بذريعة الثأر من الظلم، لا سيما ايام صدام حسين..

وها هي سوريا تتقدم نحو باب الخروج من الحرب فيها وعليها، منتصرة على الارهاب بالشعار الإسلامي..

لكن المستقبل يبقى غامضاً بسبب انفراط العقد العربي بين الفقراء والاغنياء من أهل هذه الأرض المعطاء..

في انتظار صحوة تُعيد الحياة إلى الحراك الشعبي المتشوق إلى الغد الافضل، والمؤهل لان يدفع كلفته من عرقه.. بل وحتى من دمائه.

تنشر بالتزامن مع جريدة “الشروق” المصرية

Exit mobile version