طلال سلمان

عن النظام الطوائفي في لبنان: الأقوى من الدولة والشعب!

أمر جيد أن يتنادى فيتلاقى أكثر من مائة مهتم ومهتمة من العاملين والعاملات في الحقل العام، غالبيتهم من اليساريين وأصحاب التجربة في العمل العام، سواء على مستوى الجامعات، (وروابط الأساتذة والطلاب) أو بعض المهتمين من أهل الرأي والصحافة لمناقشة الحراك الشعبي الذي يملأ بجماهيره الشوارع والميادين في بيروت وطرابلس وصيدا وصور والنبطية وجونيه وجل الديب وحلبا والقبيات وبعلبك والهرمل وزحلة وقب الياس والمرج وراشيا وحاصبيا الخ..

صحيح أن اللقاء جاء متأخراً، يحاول اللحاق بحراك الشارع بتلاوينه المختلفة حيث يختلط المحبطون ونخب من الجيل الجديد، معظمهم طلاب جامعات أو مدارس رسمية وخاصة..

وصحيح أن جو النقاش كان “بارداً” و”كلاسيكياً” الى حد كبير، ويشابه ندوة فكرية لنخب من اليساريين والمستنيرين المهتمين بمشروع التغيير، لكنه جاء جامعاً ومتنوعاً في الاجتهادات التي أطلقها النقاش الذي يفترض أن يكون فاتحة للقاءات أخرى مهمتها بلورة خطة عمل للحراك، انطلاقاً من حصيلة ما انتهت اليه المناقشات في مختلف الساحات، داخل بيروت وفي المدن والبلدات والقرى في أنحاء لبنان جميعاً.

وكأنما افترض هذا اللقاء الرصين ان ما شهدته الساحات في العاصمة والمدن والبلدات في مختلف الجهات، يمكن أن يرسم إطاراً لمطالب التغيير، مما يشجع على المباشرة في إعداد ورقة جامعة تكون مرتكزاً فكرياً ومعها “خطة عمل” يمكن أن تحدد الخطوات المطلوبة من أجل بلورة مشروع التغيير بهدف الإصلاح في مستقبل قريب.

ومفهوم أن الحراك الذي شهدته الساحات ليس خطوة على طريق تغيير النظام، ولم يأت حصيلة تنظيم مسبق لبرنامج سياسي لإحداث “الإنقلاب” المطلوب.. وان كان هذا الحراك قد أثبت كم أن الناس، كل الناس، متلهفون للتغيير، وان كانوا لا يملكون تصوراً محدداً للنظام البديل الذي يطمحون اليه، مع استعدادهم لتحمل كلفة هذا التغيير.

هل من الضروري الإشارة الى ان هذا النظام القائم في لبنان يتجاوز المؤسسات والنظم والقوانين والهيئات التي تفترض انها تجسده أو تحدد مساراته وإجراءاته وخطواته التنفيذية..

والأخطر: هل يدرك العاملون أو الطامحون لإسقاط هذا النظام مدى قوته، ومصادر هذه القوة في الخارج، بداية، ثم في الداخل؟

وعلى سبيل المثال لا الحصر: هل يتذكر هؤلاء المناضلون حقائق جوهرية أولها وأخطرها أن النظام تم “تفصيله” على مقاس “الكيان”..

و”الكيان” هو واحدة من ثمار التفاهم البريطاني ـ الفرنسي على تقاسم المشرق العربي في أعقاب الحرب العالمية الأولى، والتي شملت سوريا والعراق وفلسطين، إضافة الى “متصرفية جبل لبنان”.

واذا كانت سوريا قد اعترضت بالثورة ضد تقسيمها أربع دول بقواعد طائفية ومذهبية وأكد شعبها وحدته بالثورة، فانه قد عجز عن منع اقتطاع بعض جنوبه ليضم الى الضفة الشرقية لنهر الأردن، لاستيلاد الإمارة الهاشمية (التي ستصيرها نكبة فلسطين، بعد ثلاثين سنة، مملكة تضم الى شرقي الأردن الضفة الغربية في فلسطين تحت الأمير الذي صير ملكاً عبد الله ابن الشريف حسين (مطلق الرصاصة الأولى) في “الثورة العربية” ضد السلطنة العثمانية 1915 مع تفجر الحرب الأولى، وبإيعاز بريطاني).

وأما العراق فقد منحه البريطانيون لفيصل الأول، النجل الثاني للشريف حسين والذي هرب من دمشق بعد اقتحام الفرنسيين الأرض السورية، في 24 تموز 1920 قادمين من لبنان، وانتصارهم على مجموعة المتطوعين تحت قيادة وزير الدفاع البطل يوسف العظمة في ميسلون، عند بوابة دمشق.. وسيرث فيصل الأول ابنه الملك غازي الذي قتله هوس السرعة، ليتولى العرش نجله فيصل الثاني الذي لم يكن بالغاً فعين خاله عبد الإله وصياً..

لكن الجميع ذهبوا هو مذبحة مخيفة مع تفجر ثورة الجيش في 14 تموز 1958 بقيادة عبد الكريم قاسم ومعه شريكه عبد السلام عارف الذي سرعان ما اختفى ليعود في 14 تموز 1963 الى “الثورة” الجديدة الذي كان ضحاياها “ماكو زعيم إلا كريم.. كما كان الهتاف” الشعبوي في بغداد بعد اسقاط العهد الملكي.


كان النظام اللبناني في عنوان تحكم النفوذ الأجنبي في هذا الوطن الصغير.. فقد أسس النظام على قواعد طائفية أعطت رئاسته، مع الاستقلال الذي “دعمه” البريطانيون مع إعلان الاستقلال في خريف 1943، للطائفة المارونية.. وهكذا كان الرئيس الأول للجمهورية الجديدة الشيخ بشارة الخوري، في حين تولى رئاسة الحكومة (أو الباشكاتب، كما أسماها بعض من شغلها) (سني هو رياض الصلح) أما رئاسة مجلس النواب فقد منحت للشيعة.. صبري حمادة (بينما قانون الانتخاب ومن ثم المجلس بين يدي رئيس الجمهورية).


لماذا هذا الشرح التفصيلي لتكوين “النظام الطوائفي” الذي يحظى بالرعاية الدولية، فضلاً عن علاقة الدول الأجنبية بمجمل الكيانات السياسية في المشرق العربي تمهيداً لإقامة الكيان الاسرائيلي على أرض فلسطين.. بينما أنظمة الدول المحيطة عاجزة عن التصدي “للمؤامرة الكونية” وإنقاذ فلسطين..

ربما للتنبيه الى أن “النظام اللبناني” أقوى بما لا يقاس من “دولته”، فهو “ضرورة” للدول الأخرى، سواء التي ابتدعته 1920، أو تلك التي رعته حتى اليوم، تحت الحماية الأميركية التي “نصحت” الأنظمة العربية، عموماً، بما فيها قيادة جمال عبد الناصر لدولة الوحدة (الجمهورية العربية المتحدة التي قامت بعد اندماج مصر وسوريا)، بعدم التعرض لنظام لبنان لأن تهديده سيفتح جبهة حربية مع الغرب..

من هنا ان جمال عبد الناصر قد ارتضى ان يلتقي الرئيس فؤاد شهاب عند الحدود اللبنانية السورية.. من دون أن “يخترق السيادة اللبنانية”.. والحماية الدولية لهذا “الكيان” الذي تحاول الانتفاضة الآن إجبار نظامه على الأخذ ببعض الإصلاحات التي تعطى “الشعب” اعترافاً بوجوده.. ثم بحقوقه.

ولنأمل أن تفرض الانتفاضة الرائعة التي استولدتها دكتاتورية هذا النظام الطائفي واستعصاءه على الاصلاح، قدراً من التغيير المحقق لإرادة الشعب في تأكيد وجوده وحقه في أن يلبي هذا النظام “الديمقراطي” حقوقه على وطنه وفيه.

Exit mobile version