وئدت التجربة الانفصالية لرئيس اقليم كردستان، الملا مسعود البرازاني، في أيامها الاولى نتيجة اصطدامها بجدار الوقائع الصلبة في الداخل اساساً، وبينها وحدة المصالح وصلات النسب والمصاهرة، قبل الحديث عن وحدة المصير مع سائر العراقيين بأكثريتهم العربية الساحقة وسائر الاقليات… بل هي انتهت بعودة كركوك إلى الدولة المركزية.
اما في الجوار المباشر للعراق (واقليمه الكردي ضمناً) فقد هددت هذه التجربة الامن القومي ووحدة الكيان السياسي لكل من دولة تركيا (التي تضم خمسة اضعاف اكراد العراق ـ حوالي عشرين مليوناً) والجمهورية الاسلامية الايرانية (التي تضم حوالي سبعة ملايين كردي).
ولم تظهر الدول الكبرى (في ما عدا روسيا) حماسة لانفصال الاكراد عن دولتهم العراقية، لخطورة ما يمكن أن تحدثه هذه السابقة من توترات وردود فعل من طبيعة انفصالية تهدد كيانات عديدة.. ثابتة.
لقد أخذ البرازاني اكراد العراق في مغامرة غير محسوبة فصدمهم الواقع (المحلي والاقليمي والدولي) الذي حاول “رئيسهم” تجاهله أو التحايل عليه.
ومع أن اكراد سوريا الاقل عدداً من “اخوانهم” في العراق، لم يرتكبوا مثل هذه الخطيئة المميتة، الا أن مسألة الاقليات في الوطن العربي ـ عرقية ودينية ـ قد فرضت نفسها على معظم الدول العربية التي تختلط فيها اعراق شتى، وان ظلت الارومة العربية هي الاساس…
لا بد من الاعتراف بهذا الواقع والتعامل معه بمسؤولية وحرص على التنوع داخل الوحدة، وتقديم الايمان بالأرض على الولاءات المذهبية والعرقية التي غالباً ما “يلعب الاجنبي” على عصبيتها او تغري بتحكم الاقلية الذي لا يمكن أن يدوم.
أن المحنة التي عاشها العراق، في ظل حكم العسكر، ثم في الليل الطويل لعهد صدام حسين، بكل ما حفل به من مغامرات عسكرية (الحرب على ايران لمدة سبع سنوات، ثم غزو الكويت الذي انتهى بالاحتلال الاميركي لبعض العراق في العام 1992 تمهيداً لاحتلاله جميعاً في العام 2003)، ثم في ظل التشطير الطائفي للسلطة الذي اعتمده ذلك الاحتلال ليكون حاجزاً في وجه استعادة العراق دولته وموقعه المؤثر في قلب امته وفي المحيط..
إن تلك المحنة المفتوحة حتى اليوم، برغم انتصار العراق بجيشه وشعبه على “دولة الخلافة الداعشية”، قد اثبتت أن الدولة تكون قوية بوحدة شعبها المؤكدة بالديمقراطية والمساواة بين ابنائها الذين سيبنونها.
كذلك فان المحنة التي تعيشها سوريا، بدولتها وشعبها الذي هجرت الحرب في سوريا وعليها ثلثه إلى الخارج، وثلثه في الداخل، وحرمت جيلاً كاملاً من شروط الحياة اللائقة (كالتعليم والصحة والاستقرار والاطمئنان إلى الغد) تفرض ـ بعد الانتصار الذي يتبدى قريباً ـ اعادة صياغة النظام لتستعيد سوريا مواطنيها ـ وهي تستعيد دولتها الموحدة بين مواطنيها، والتي ليس فيها امتياز لطائفة او منطقة او فرد، يحميها جيش الوطن، ويبنيها شعبها بجهده وعرقه مطمئناً إلى تمتعه بحقوق المواطنة في مختلف مناطقه، من دون تمييز على اساس الدين او المذهب او العرق… وهو ما كان يشهد بها تاريخ سوريا منذ العهد الاستقلالي الاول.
ومع أن اكراد سوريا، الاقل عدداً من اكراد العراق والاكثر حكمة منهم، قد رفضوا التحريض التركي على وحدة البلاد وثبات دولتها، الا انهم يطلبون صيغة من الاعتراف بهم كأقلية وازنة، لهم حقوقهم في أن يكون شركاء في القرار الوطني من داخل “سوريتهم” وليس من خارجها..
تمكن الاشارة هنا إلى أن انظمة الجزيرة والخليج العربي الآتية من خارج التاريخ، التي تحجر على شعوبها، وتغلق ابواب العمل الوطني دونهم أي السياسة بمعنى أن تكون مصدر القرار، قد انتبهت ـ ولو متأخرة ـ إلى غربتها عن دنيانا، وظهور بوادر لإفلاس سياستها القمعية واحتكار السلطة والثروة والسلاح، فبدأت بفتح النوافذ، ولو مواربة، كما تدل المؤشرات الأولى ممثلة بالمبادرة المحدودة التي اتخذها ولي العهد السعودي الامير محمد بن سلمان، بتزكية من الاميركيين، وبدلالات بعض التحركات الشعبية التي تتخذ منحى العنف، لانسداد افق العمل السياسي. ولعل بين “البشائر” السماح للنساء بقيادة السيارات!
*****
لقد مرت الامة العربية بمحن عظيمة، عجزت دولها القائمة على حكم القبيلة او العشيرة او الطائفة او العسكر، فضلاً عن حكم الفرد، عن مواجهتها… فكانت النتيجة أن هزمها العدو الاسرائيلي بدل المرة مرات، وان عادت قوى الاستعمار القديم إلى الهيمنة على قرار العديد من دولها التي كانت تنقصها مقومات الدولة (الا ثروة النفط او الغاز).
بالمقابل تمكنت الدولة العنصرية التي اقامتها قوى الامبريالية والاستعمار على ارض فلسطين، بمشروع بريطاني (عنوانه وعد بلفور) سرعان ما تمت رعايته اميركيا من دون أن تعارضه روسيا السوفياتية، من أن تهزم الدول العربية مجتمعة، وأكثر من مرة، وفي أكثر من حرب.
ومن الواجب الاعتراف أن هذه “الدولة” العنصرية حتى العظم تتيح لأشتات اليهود الآتين من أربع رياح الارض أن يعيشوا حالة خاصة من الديمقراطية، مقدمة نموذجاً فريداً: هي اقيمت بالسلاح والدعم الاجنبي المفتوح وعلى قاعدة عنصرية معادية للإنسان وليس لحقوقه فقط، ولكن الديمقراطية التي يعتمدها نظامها وحدت بين هذه الاقوام المستقدمة من الخارج، ومكنت من انتصار هذه الدولة التي تكاد أن تكون ولاية اميركية على الدول العربية مجتمعة وأكثر من مرة، ومن ضمنها بل اولها شعب فلسطين ذاتها.
فكيف الحال والعرب يعلنون اعتزازهم بالانتماء لامة واحدة ويجمعهم مصير واحد، في الحال والاستقبال كما دلت تجارب الماضي، وكما اكدت تجربة الحركة الانفصالية لأكراد العراق.. بشرط الافادة من دروسها.
انها اللحظة التاريخية لسماع صوت الشعب، بمختلف مكوناته وتلاوينه لإعادة صياغة “النظام” لكي يكون ديمقراطياً بالفعل، جامعاً ومنفتحاً على المكونات جميعاً، لا تحتكره طائفة او حزب او شخص مهما بلغت مكانته او دوره في خدمة بلاده.
تنشر بالتزامن مع السفير العربي