طلال سلمان

عن الرئاسيات العربية.. و”النموذج اللبناني الفريد”

انتهى عصر السقوط الصاعق لأنظمة الطغيان، مع تقدم مئات الجنود لاحتلال مبنى الاذاعة وتمكين “القائد الجديد” من اعلان “قلب النظام الفاسد واعتقال مسؤوليه والمعاونين لمحاسبتهم على ما ارتكبت ايديهم من مظالم في حق الشعب العظيم، الذي سيعرف الآن، طريقه إلى مستقبله”..

تعلمت انظمة الطغيان القائمة الدروس من سابقاتها التي كانت تتهاوى كأوراق صحيفة قديمة متى تحركت الدبابات في اتجاه الاذاعة، وانتشار الجيش في الشوارع.

تراكمت الخبرات حتى صار للجيش رديف عسكري اقوى منه (ولا تهم التسميات) وللرديف رديف ثان وثالث.. هذا غير اجهزة المخابرات التي تعددت ثم تكاثرت فروعها وحمل بعضها أسماء مباركة (فلسطين، مثلاً)..

اختير قادة الاجهزة الامنية من الاقارب والاصهار والمقربين ممن تعودوا أن يسألوا ويسألوا ويسألوا، ولكنهم لا يجيبون على أي سؤال..

أما قادة الفرق في الجيش فقد تم اختيارهم بعد امتحانات قاسية، وأحيانا بالنار، واتخذ من اقاربهم رهائن (على طريقة الحرس الوطني في السعودية)، فان أخطأ أحدهم عوقب اهله وذريته حتى آخر قريب او صهر او صديق ثبت اخلاصه للمخطئ.


صار “الانقلاب العسكري” المباغت والذي يتم مع الفجر عادة، “موضة قديمة” غير صالحة للاستخدام مجدداً.. فقد احتاطت الانظمة العاتية، وصاحبة الخبرات المعتقة في العمل السري، وكشف “الشبكات التي تتحرك في الظلام”، وزرعت المخبرين في كل مكان، متنكرين وفق الحاجة: رجال اعمال، عتالون، زبالون، حلاقون، اصحاب محلات تجارية، موظفون محددون في مختلف ادارات الدولة والشركات الكبرى، رؤساء بلدية ومختارون، عاطلون عن العمل يرابطون عند زوايا الاحياء والشوارع، او مزروعون في الفنادق والمطاعم والمقاهي وعلب الليل، راقصات وطبالون، ومطربون بلا جمهور الخ..

ثم أن “أبطال” الانقلابات الاخيرة، تعلموا من تجارب سابقيهم، سواء الناجحة منها أم الفاشلة على وجه التحديد:

بين ما تعلموه أن “يختفي” القائد الحقيقي للانقلاب حتى يطمئن إلى نجاحه “فيظهر” مع معاونيه الذين نفذوا خلع “العهد البائد”، والذين سوف “يخلعهم” تدريجياً عبر تكليفهم بنقل الرسائل إلى القادة الاخرين، او باستقبال كبار الزوار والمشاركة في مراسم وداعهم في المطار، وبعد ذلك قد يتهم بعضهم بالتآمر ضد النظام، وقد يطلب بعضهم الآخر تعيينهم سفراء في الخارج، وقد يستقيل من تبقى معتبراً انه انجز مهمته الوطنية ومن حقه أن “يرتاح” في مزرعته بعيداً عن السلطة بل العمل السياسي جميعاً.


فأما العراق فقد وقعت فيه، خلال العهد الملكي (1920 ـ 1958) محاولة انقلابية واحدة فاشلة في العام 1935، ثم كانت ـ بعد سنوات ـ ثورة 14 تموز 1958 بقيادة عبد الكريم قاسم ومعه شريكه عبد السلام عارف..

ولقد اغوت الجماهيرية عبد الكريم قاسم، الذي كان متقشفا وغريب الاطوار، فأخذه الخوف من جمال عبد الناصر (رئيس دولة الوحدة ـ الجمهورية العربية المتحدة آنذاك) إلى المجاهرة بالعداء له ولمصر ولسوريا معاً..

ثم انه تطلع إلى التوسع فأعلن أن الكويت ليست دولة بل هي مجرد مدينة تابعة لمحافظة البصرة، وشن عبر الاذاعة والصحف والخطب حملة عنيفة على آل الصباح بل والكويتيين جميعاً جعلتهم يعيشون حال ذعر غير مسبوقة، حتى نجح حزب البعث بالتحالف مع بعض كبار العسكريين بقيادة عبد السلام عارف نفسه في خلع قاسم وقتله، وتولي السلطة بالشراكة مع الجيش.

…وتوالت الانقلابات، وان كان “الانقلاب البعثي” قد حاول احياء مشروع الوحدة طارحاً أن تكون ـ الآن ـ ثلاثية بحيث تضم العراق إلى مصر وسوريا.. لكن المحاولة لم تكان جادة.. ثم سادت المنازعات داخل سلطة بغداد حتى وقع انقلاب 14 ـ 17 تموز بقيادة احمد حسن البكر وبعض القادة العسكريين، وان تبدى أن “بطله” الفعلي صدام حسين، الذي سرعان ما تخلص من كبار الضباط وجعل نفسه “السيد النائب” أي نائب خاله البكر.. وهو سيحكم حتى 2003، وسيشهد عهده الكثير من المغامرات العسكرية اشهرها الحرب ضد ايران ـ الثورة الاسلامية بقيادة الامام الخميني والتي استمرت سبع سنوات دموية.. ثم كانت غزوة الكويت في 2 آب (اغسطس) 1991 التي استنفرت ضده العالم اجمع، فشارك بعض العرب مع الاميركيين في اخراجه من الكويت، بعد شهور قليلة، في حين تقدمت القوات الاميركية لتحتل بعض العراق.. ثم انها اكملت الاحتلال في 20 اذار إلى 1 ايار 2003، ونهبت مكتباته ومتاحفه وخربت مدنه جميعاً، وسلمت صدام حسين إلى الغوغاء من الشيعة فأعدمته شنقا، بينما هو يلقي خطبة قومية خالصة ويظهر شجاعة استثنائية في مواجهة الموت.


…وأما لبنان، فقد جرب “الجنرال” نور الدين الرفاعي المدعوم بغروره وبقوى سياسية كانت تريد ما لا يمكن أن تناله من النظام، فانتهى امره بعدما “باعه” الذين حرضوه، وقال في تصريح شهير لجريدة “السفير” آنذاك تاريخ 24 ايار 1975، وكان الوقت آخر الليل: “انا منهوك، وبدي نام”.

أما “الانقلاب الثاني”، فكان “شرعيا” اذ أن امين الجميل ظل طامعاً، بل حالماً، بأن يساعده الرئيس السوري الراحل حافظ الاسد على تجديد ولايته، او تمديدها، حتى اليوم الأخير.. فلما يئس من ذلك قام بتشكيل حكومة عسكرية (سداسية) هي عبارة عن المجلس العسكري الاعلى، سرعان ما استقال الاعضاء المسلمون وبقي مع الجنرال ميشال عون (قائد الجيش ، يومها) العضوان المسيحيان ادغار معلوف وعصام ابو جمرا.. واستمر الوضع معلقاً حتى ما بعد اتفاق الطائف… وهكذا ذات صباح مبكر، اقتحمت القوات السورية التي كانت مرابطة في لبنان، مع ثلة من جنود الجيش اللبناني القصر الجمهوري في بعبدا، حيث وجدوا عائلة الجنرال، في حين كان “الرئيس ـ القائد” قد اختار السفارة الفرنسية في محلة مارتقلا، كي يلجأ اليها… وبعد بضعة اسابيع سُمح له بالسفر، مع عائلته، حيث أمضى أكثر من خمسة عشر عاماً “ضيفاً” على الحكومة الفرنسية كلاجئ سياسي.

.. وفي اواخر ايلول 1989، عقد مؤتمر الطائف، في السعودية، بحضور اعضاء مجلس النواب ومعهم رئيس المجلس حسين الحسيني، و”مراقبين” سوريين وسعوديين (واميركيين)، اقروا فيه مشروع “اتفاق الطائف”، ثم عادوا إلى لبنان.. وهكذا تم عقد اول اجتماع لانتخاب الرئيس الجديد في مبنى مطار القليعات، في اقصى الشمال، وانتخبوا رينيه معوض رئيساً للجمهورية، ولم “ينافسه” الا “النائب ـ حينها ـ الياس الهراوي.

على أن المأساة كانت مفتوحة الابواب بعد.. وهكذا اغتيل الرئيس رينيه معوض، بعيد انتهاء الاحتفال بذكرى عيد الاستقلال في 22 تشرين الثاني 1989.

ولم يكن بد من اختيار الياس الهراوي رئيساً.. فاستقر في مبنى مؤقت وفره له الرئيس الراحل رفيق الحريري، ريثما يتم ترميم القصر الجمهوري.

ولقد تم التمديد للرئيس الياس الهراوي، فاستمر حتى 24 تشرين الثاني العام 1998، حيث انتخب العماد اميل لحود رئيساً للدولة.. وبعد تمديد الولاية للحود جيء بالعماد ميشال سليمان رئيساً..

في 14 شباط 2005 وقعت جريمة تفجير مروعة في بيروت، ذهب ضحيتها الرئيس الشهيد رفيق الحريري، قرب فندق السان جورج وغير بعيد عن مبنى المجلس النيابي، حيث كان يلتقي عدداً من الاصدقاء والصحافيين. ولكنه لم يبتعد كثيراً، اذ امام الفندق انفجر بسيارته لغم او قنبلة او نوع جديد من المتفجرات أودى بحياته، ومعه عدد من المرافقين.

وسيبدأ في لبنان زمن مختلف، اذ سرعان ما قدم عمر كرامي، الذي كان رئيساً للوزراء، استقالة حكومته في 28 شباط، وجاء نجيب ميقاتي خلفاً له كرئيس للحكومة في العام 2005. وفي هذه الفترة اطلق سراح الدكتور سمير جعجع الذي كان مسجونا بعد محاكمة علنية طويلة خلصت إلى الحكم عليه بالإعدام مخففا إلى المؤبد .. وهكذا أُخرج من السجن في بعض اقبية الدفاع إلى “الحرية”.. بعد عشر سنوات من اعتقاله، اثر اتهامه بارتكاب جرائم عدة بينها اغتيال الرئيس رشيد كرامي وداني كميل شمعون وطوني فرنجية وعائلته وشخصيات عديدة أخرى..

لكن ذلك لم يمنع جعجع، بعد إطلاقه من السجن والغاء الحكم المبرم عليه، من تزعم “القوات اللبنانية” والتطلع إلى رئاسة الجمهورية، خصوصاً وانه يرأس، اليوم، كتلة نيابية وازنة!

وللبحث في الرئاسيات (والملكيات والامارات) العربية صلة.. فإلى اللقاء.

Exit mobile version