طلال سلمان

عن الحرب بين النفط والغاز: لا مرجعية عربية.. والخلافات تلتهم المستقبل!

انعدم الوسيط بين العرب والعرب، الذين كثيراً ما يختلف قادتهم ملوكاً ورؤساء دول وامراء ومشايخ، وقليلاً ما تعرف الاسباب الحقيقية للخلاف، وشروط “الصلح” متى تم، وان اهملت معرفة المستفيد من الخلاف او من صفقة الصلح التي غالباً ما تكون مجزية.

وهكذا لم يجد المختلفون من اهل مجلس التعاون الخليجي من يتدخل لرأب الصدع واصلاح ذات البين في ما بينهم وسيطاً من بين الاشقاء العرب، بل أن حتى التركي قد رُفضت شفاعته لقطر، وعاد الجميع إلى مرجعهم الاول والأخير، والآمر الناهي، وهو الولايات المتحدة الاميركية بشخص رئيسها المعظم دونالد ترامب.

وبغض النظر عن أن كلفة المصالحة ستكون باهظة على اطرافها جميعاً، فان هذا الواقع يجسد الشاهد الجديد على بؤس حالة العرب ويؤكد ـ مجدداً ـ انهم أعجز من أن يحلوا مشكلاتهم “الاخوية”، فكيف بهم إذا ما اضطروا إلى مواجهة عدوهم الوطني والقومي والمصيري بشخص اسرائيل.

بين اكلاف هذه “الحرب” أن تندفع اليها السلطة في مصر، مدفوعة بالرغبة بالثأر من الحكم في قطر الذي تواطأ عليها قبل حكم الاخوان ثم خلاله وربما بعده..

ولكن مصر حتى في حالة ضعفها وفقرها، تظل في عيون العرب (والعالم) أكبر من ان تلتحق بالسعودية والامارات والبحرين.

فحساب مصر مع الحكم في قطر مختلف جداً عن حساب شركاء امارة الغاز في الثروة وفي مجلس التعاون الخليجي.

حتى في موضوع الاخوان لم تكن قطر وحدها المضيف والداعم بالمال والسلاح.. بل أن السعودية لم تكن معادية ـ جدياً ـ لهذا التنظيم ذي التاريخ الملتبس الذي جعله غالباً في موقع الطرف الرجعي المعادي للتغيير ـ إلا وفق معاييره ـ في مختلف ارجاء الوطن العربي.

في أي حال فإن الازمة المتفجرة، مجهولة الاسباب، بين السعودية (ومن معها) وإمارة قطر قد كشفت ـ مرة أخرى ـ بؤس الاوضاع العربية، والانقسام المريع بينهم، وغياب المرجعية المؤهلة لحل أي خلاف قد ينشب بين قادتهم.. فالقاهرة، في هذه “الحرب” طرف، إلى جانب السعودية ومعها الامارات والبحرين، ودمشق كما بغداد مغيبة بالحرب فيها وعليها، والجزائر في مثل حال رئيسها الحي ـ الميت، والمغرب مشغول بذاته..

ثم أن دول مجلس التعاون الخليجي قد استقلت بقرارها، منذ زمن بعيد، متخذة من واشنطن مرجعية عليا، في يدها الحل والربط في الشؤون الخليجية جميعاً، الاقتصادية والعسكرية فضلاً عن السياسية.. حتى أن ولي العهد السعودي الامير محمد بن سلمان قد اختار مؤسسة اميركية لكي تضع له خطة العام 2030 للنهوض بالمملكة إلى حيث يليق بدخلها النفطي الهائل والذي لم ينعكس على الاحوال العامة فيها، سواء الاقتصادية ام التربوية ام الاجتماعية…فضلاً عن السياسية!

من هنا فان وزير الخارجية الاميركية قد “تفرغ” لمعالجة الازمة الحادة التي نشبت ـ من دون مقدمات مقنعة ـ بين السعودية ومن معها وبين قطر، والتي تعذر على رجل المهمات الصعبة، امير الكويت، الشيخ صباح الاحمد الصباح أن يعالجها فيحلها.. برغم انه نجح في تهدئة الطرفين، بحيث يمكن للوسيط الاخطر والذي لا يرد له طلب، أي الوزير الاميركي أن يرسم إطار الحل المنشود للمشكلة مجهولة الاسباب إلى أن تكشفها طبيعة الحل، وان كان عنوانها السياسي المعلن هو: “قناة الجزيرة” وحروبها المفتوحة على جبهات عدة.

*****

إن هذه الازمة التي تأخر انفجارها عن الموعد المتوقع، إذا ما كانت “قناة الجزيرة” هي السبب، تدل بوضوح على أن العرب عموماً وعرب الخليج خاصة، يعيشون في عالم افتراضي يبهر الناظرين بتوهج الذهب فيه… وهو قد يساعد في طمس المشكلات الطبيعية، فالمال وحده لا يكفي لحل المشكلات الاجتماعية والسياسية والعلاقات بين الدول الناشئة وذات الدخل وحيد المصدر والخاضع لتحكم الاعظم انتاجاً والأقوى نفوذاً في السياسة كما في العسكر، وخارج بلادهم اكثر مما في داخلها… هذا فضلاً عن المتحكم في الداخل بأسباب الحياة جميعاً..

ثم أن دول النفط العربية استغنت بالذهب الاسود عن هويتها القومية، وصار النفط ـ بأسواقه والمتحكمين بأسعاره ـ هو الموجه الأساس للسياسة..

وهكذا انقسم العرب عربين: عرب الثروة، نفطاً وغازاً، والعرب الفقراء.. ولم تعد المشاعر القومية ووحدة المصير والمصالح المشتركة تكفي لتربط بينهم في حين أن مصالحهم متضاربة او انها غير مشتركة..

وكان منطقياً أن يذهب عرب النفط والغاز إلى اميركا، القوة المهيمنة في منطقتهم، كما انها المنافس الاكبر في مجال انتاج الطاقة (نفطاً وغازاً)، ثم انها مؤهلة على التحكم بالأسعار رفعاً وخفضاً عن طريق التحكم بالإنتاج..

تجاوز الارتباط السياسة بمعناها المألوف إلى مصادر الدخل والتحكم بأسواقه وبالتالي بأسعاره.. ولم تعد للشعارات القومية معنى الرباط المقدس على طريق المصير المشترك.

*****

هي أزمة خطيرة، اذن، في العلاقات بين الرباعي العربي الذي تقوده السعودية ويضم إلى الامارات والبحرين جمهورية مصر العربية، ذات “الثأر البايت” على قطر، حاضنة الاخوان المسلمين، وقيادة حملة التشهير بمصر التي اسقطت حكمهم الذي وصلوا اليه في غفلة من شعبها، فلما انتبه خرج إلى الشارع فأسقطهم فيه قبل أن يتقدم الجيش ليتولى ـ مجدداً ـ زمام الامور.

وبرغم كل ما كُتب وقيل في الاعلام عن أسباب الازمة “بين الاشقاء الاغنياء” فان حقيقة الخلاف ما تزال غامضة: فالكل عند الاميركان في السياسة كما في الاقتصاد، والكل “استقلوا” عن سائر العرب، وكانت آخر مهمة أنجزوها ـ بقيادة قطر، هي “طرد” سوريا من جامعة الدول العربية، وهي دولة مؤسسة للجامعة في حين كانت معظم دول الخليج محميات بريطانية من رمل تحته النفط او مياه تفور بالغاز ولا من يكتشف او يستثمر ليحول هذه البقاع الجرداء إلى دول حاكمة.

..من دون أن ينتقص هذا التوصيف من كفاءة أهلها الذين نجحوا في شراء مواقع النفوذ عربياً ودولياً، وصارت بلادهم من عواصم القرار.

ابسط دليل على أهمية “الاخوة الاغنياء” أن دول العالم المؤثرة في القرار الكوني قد انقسمت ـ في مواجهة الخلافات التي شجرت بينهم… ففي حين اتخذت الولايات المتحدة دور الوسيط، ورفضت السعودية ومن معها تركيا في مثل هذا الدور، اندفعت المانيا وفرنسا ودول اوروبية أخرى لتساند قطر وتعلن دعمها لها في هذا الصراع غير المفهوم.

بالمقابل فان قطر قد حاولت الرد على الهجوم الصاعق بالانفتاح عربياً، فأعلنت أن أي مواطن عربي يستطيع القدوم للعمل فيها فيمنح تأشيرة الدخول في مطار الدوحة!. وهذا استثناء، لو تعلمون، عظيم!

*****

أن هذه “الحرب الكونية” التي نشبت من دون انذار مسبق، فشقت من تبقى من العرب في دولهم الغارقة في فقرها بين الاغنى والاكثر غنى، تنذر بمستقبل بائس للعرب جميعاً، وتهدد بخطر داهم ما تبقى من قضيتهم المقدسة: فلسطين..

لقد اثبتت هذه الحرب أن الانظمة العربية باتت بلا قضية جامعة.. وان الانقسام بين فقرائهم والاغنياء حقيقة ثابتة. وما انضمام مصر إلى حلف السعودية ـ الامارات ـ البحرين الا ثأر بايت من قطر و”الجزيرة” فيها، التي حملت لواء الاخوان المسلمين، واستمرت تهاجم مصر وتستفزها على مدار الساعة، متباهية بقوتها التي من هواء وغاز..

وها هو العدو الاسرائيلي يقتل المصلين في المسجد الاقصى، بذريعة الرد على عملية استشهادية نفذها ثلاثة من ابطال المقاومة من ام الفحم.. فيبادر محمود عباس إلى الاتصال بنتنياهو معتذراً.

*****

وقد يكون موجعاً الاعتراف بأننا نعيش في عصر باتت فيه الخلافات بين العرب متقدمة على صراعهم مع العدو الاسرائيلي، وهي معركة مصير… وان فلسطين قد سقطت من جدول اهتمامات مسؤوليهم وان المنافسة بين حكامهم الآن تنحصر في مسألة من هو الاقرب إلى قلب الادارة الاميركية او إلى عقلها… علماً بأن مثل هذه الادارة بلا قلب، كما أن قيادة دونالد ترامب ليست مرجعاً يعتد به عند الحديث عن العقل.

لكن الموجع أكثر أن الخلافات الموسمية التي تنشب بين الحين والاخر بين الدول العربية تكاد تكون بلا أساس يتصل بهمومهم الفعلية، وان كانت تستولد لهم المزيد من الهموم الثقيلة.

لا مرجعية عربية الآن: لا قائد ولا قيادة جماعية..

وكل الكلام عن وحدة المصير والقضية المقدسة والامن القومي، وضرورة التقدم في اتجاه العصر خصوصاً وإننا مهددون بالخروج منه، يظل أقرب إلى التمنيات.

إن حرب داحس والغبراء الجديدة قد كلفت العرب الكثير من سمعتهم بغض النظر عن الخاطئ والمصيب فيها.

والاهم أن توقف هذه الحرب العبثية بين متشابهين لا فضل فيها لنفطي على غازي.. الا بالقرب من اميركا.

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

Exit mobile version