طلال سلمان

عن الجزائر وحربها الجديدة ضد الدكتاتورية: الشعب في الشارع حتى لا يتكرر الخطأ!

بات المواطن العربي يخاف من الفرح، كلما تبدى وكأن قضيته الوطنية او القومية تقترب من إحراز نصر على الدكتاتورية والتخلف وتغييبه عن القرار، يفاجأ بانعطافه في تطور الاحداث تعيده إلى نقطة الصفر او ما دونها… ثم يكتشف أن بعض “قيادات العمل السياسي” في الداخل قد “باعته” للخارج، تحقيقاً لمنافعها. على حساب مصلحة الوطن وأهله..

ولقد عاش هذا المواطن أياما رائعة من الفرح التاريخي مع انتفاضة تونس المجيدة مع البوعزيزي التي اسقطت المتسلق إلى السلطة خلال غيبوبة الرئيس الابدي الحبيب بورقيبة الجنرال بن علي وزوجته ناهبة القصور وجامعة اللآلئ والجواهر.

ومع أن هذه الانتفاضة لم تحقق كل ما كان يتمناه الشعب التونسي نتيجة الصراع بين البورقيبيين والاسلاميين والوطنيين مع العروبيين من دعاة التغيير الا انها فتحت الباب امام رياح التغيير بعد عهد من التجمد في ظل الشيخوخة التي حكمت لمدة تزيد على ثلاثين سنة.

..ثم بلغت افراح المواطنين العرب في مصر وسائر انحاء الوطن العربي ذروتها مع “انتفاضة يناير” ـ كانون الثاني 2011 ـ التي بشرت بعصر جديد ليس لمصر وحدها بل للعرب في مختلف ديارهم، بعد دهر من اليأس والغرق في ظلام الدكتاتورية و”الرئيس الخالد” و”الرئيس إلى الابد”، وغيرها من الشعارات المحقرة للشعب إلى حد الغاء كلمته ورأيه في من يحكم بلاده، واعتباره مجرد رعية عليه أن يسمع ويطيع والا…

غير أن هذه الانتفاضة البلا رأس سرعان ما تاهت عن هدفها، واخترقها الاخوان المسلمون وجاء الداعية القرضاوي من قطر ليركب الموجة، فتفرقت الصفوف، وفاز الاخوان برئاسة الدولة في انتخابات تحكم فيها “التنظيم” فأتت بمرسي رئيساً، بينما عاد الشعب إلى التفرق ايدي سبأ.. ولم يكن ممكنا اسقاط النظام الجديد الا بالجيش، وهذا ما كان.


ها هي الثورة الشعبية في الجزائر تنجز، بملايينها التي لم تغادر الشارع منذ حوالي الشهر، الهدف الأسمى من حركتها المباركة، فيضطر الرئيس الابدي عبد العزيز بوتفليقة، إلى الاستقالة، أخيراً! .. تمهيداً لانتخابات رئاسية جديدة، مع سيادة التخوف من أن تكون هذه الخطوة مقدمة لاستمرار الجيش في فرض سيطرته على “العهد الجديد” الذي لن يكون، في هذه الحالة، الا امتداداً للعهد القديم.

ذلك أن الجيش في الجزائر، كما في سائر الاقطار العربية، استسهل القفز إلى رأس السلطة منذ العالم 1948، وكرد فعلي أولي على نكبة العرب في فلسطين، واتهام الطبقة السياسية عموماً بالفساد، بل بالخيانة الصريحة، وبيع فلسطين المقدسة إلى الحركة الصهيونية، معززة بالدعم الدولي المفتوح، بدليل أن الاتحاد السوفياتي قد سبق الولايات المتحدة الاميركية (وبريطانيا التي كانت منتدبة على فلسطين) إلى الاعتراف “بدولة اسرائيل”، فور اعلان قيامها في 15 ايار (مايو) 1948.

كان الانقلاب الاول في سوريا بقيادة “الزعيم حسني الزعيم” الذي ارتدى ثياب الماريشال فورا.. وستكشف الحقائق، في ما بعد، أن بريطانيا كانت المهندس الرئيسي لهذا الانقلاب وان شركة نفط العراق ـ I.P.C ـ البريطانية كانت خلفه، وان السبب كان في رغبتها نقل النفط العراقي إلى شاطئ المتوسط، وقد اختارت أن تكون المصفاة في “الدعتور”، على بعد اميال قليلة من طرابلس، حيث تمت اقامة محطة التكرير والنقل إلى مختلف جهات العالم.

ولسوف تتوالى الانقلابات العسكرية في سوريا، كرد فعل بائس على الهزيمة العربية في فلسطين، وسيتعاقب على قيادة البلاد عدد من العقداء الذين سيحاولون إعادة سوريا إلى عروبتها…

وبعد ثورة 23 يوليو (تموز) 1952 في مصر، بقيادة جمال عبد الناصر، ثم العدوان الثلاثي على مصر في خريف 1956، والذي شاركت فيه بريطانيا وفرنسا مع العدو الاسرائيلي في الهجوم على مصر، بذريعة الاعتراض على تأميم قناة السويس، وقفت سوريا مع جماهير الامة العربية إلى جانب مصر، في صد العدوان..

كانت الثورة الشعبية العظيمة قد تفجرت في الجزائر ضد الاحتلال الاستيطاني الفرنسي الذي حاول الغاء الهوية الوطنية لشعب الجزائر الذي اندفع في مقاومة اسطورية كلفته اكثر من مليون شهيد، قبل ان تضطر سلطات الاحتلال إلى مباشرة التفاوض مع الثوار، وسط تأييد عربي كاسح وتفاؤل له ما يسنده من أن فجراً جديداً يطل على الأمة العربية..

في هذا المناخ قامت اول دولة للوحدة العربية في التاريخ الحديث من خلال اندماج مصر وسوريا في “الجمهورية العربية المتحدة” وسط جو من التأييد الحماسي العارم وتحقق العرب من أن فجراً جديداً يطل عليهم مبشراً بنهاية عصر الاستعمار والاحتلال وحكم الرجعية بملوكها والامراء واتباع الاجنبي..


لنعد إلى الجزائر وثورتها الثالثة، حتى لا ننسى محاولة الاسلاميين الانقلاب على الحكم والسيطرة على البلاد، ولو عبر حرب اهلية كلفت آلاف القتلى وتدميرا في انحاء البلاد وتخريبا للاقتصاد… وأعادت الجيش إلى السيطرة على الحكم.

في ظلال هذه السيطرة، تم استدعاء عبد العزيز بوتفليقة، الذي شغل منصب وزير الخارجية طيلة عهد هواري بومدين، الذي ازاح اول رئيس شرعي منتخب لجمهورية الجزائر الديمقراطية احمد بن بله، في انقلاب عسكري… فلما توفي بومدين بعد مرض طويل كان مستحيلاً معه أن يفيق من غيبوبته، وتوالي قادة عسكريون على السلطة، اختار بوتفليقة دولة الامارات العربية المتحدة ملجأ سياسياً له.

..وعاد بوتفليقه من منفاه الاختياري ليأخذه الجيش، بالانتخابات الديمقراطية المشغولة، إلى منصب رئيس الدولة.. وبعد انتهاء الولاية الأولى تم التجديد له لولاية ثانية ثم ثالثة، فرابعة..

وقبيل انتهاء ولايته الأخيرة تبدى وكأنه يرغب في التجديد او التمديد، برغم أن حالته الصحية قد باتت كارثية، فهو عاجز عن الحركة والمشي والنطق، يحركونه فوق كرسي بعجلات، ويغيب للاستشفاء ثم يعود ليماطل في التخلي عن سلطته التي تُخفي في طياتها هيمنة الجيش على البلاد ومقدراتها، بغير خوف من الحساب.

..وكانت الثورة المباركة ضد الطغيان: خرجت الملايين إلى شوارع المدن والقصبات في مختلف انحاء الجزائر، ورفضت المساومة وكشفت محاولات خداعها، واستمرت تحتل الميادين وتهتف للتغيير واسقاط الرئيس العاجز.. حتى اضطر إلى كتابة استقالتها وسلمها علنا إلى رئيس المجلس الدستوري الذي كان برفقة رئيس مجلس الأمة.

ماتزال الثورة مستمرة، والجماهير يقظى، تتحاشى أن تخدع مرة أخرى، وترفض “حكم العسكر”، وتنادي بالوحدة الوطنية، وبإعادة الجزائر إلى دورها المفتقد عربيا ودوليا، فضلاً عن الافادة من الثروات الطبيعية العديدة التي تتفجر بها ارض الجزائر (النفط والغاز) لبناء الغد الافضل لملايين جزائر الثورة.

الحكم، الآن، نظرياً، في يد مجلس الشعب، وعمليا في يد الشارع، الذي ضاق بالجماهير فجعل الجيش يتردد في القفز إلى سدة السلطة..

لكن الأيام ما تزال حبلى بالتطورات.. والحركة الشعبية تستريب بموقف قيادات الجيش.. لذلك، ومع فرحتها البالغة وزهوها بانتصارها الذي تمثل في توقيع بوتفليقة على تعهد بعدم ترشيح نفسه لولاية جديدة وتكليفه مجلس الشعب بان ينتخب رئيسا جديداً، خلال المهلة الدستورية، فان الشعب المتحسب من مخادعة جديدة ما زال يملأ الشوارع في انتظار اعلان النصر.

أن الجزائر بتضحيات شعبها العظيم التي تجاوزت أي تقدير، تستحق أن يحكمها هذا الشعب الذي بلغ من امتهانه ما جعل ملايينه تستقبل مستعمره السابق الرئيس الفرنسي جاك شيراك بالهتاف “فيزا، فيزا..”!

وعسى أن يتجاوز هذا الشعب العظيم بخبراته المتراكمة، خلال حرب التحرير، ثم خلال تجربته الاستقلالية مصاعب اللحظة، وهي كثيرة وخطيرة، من اجل التفرغ لبناء الغد الافضل.

تنشر بالتزامن مع جريدتي “الشروق” المصرية.

Exit mobile version