طلال سلمان

عن الانقلابات العسكرية وتواطؤاتها: آكلة الاحزاب والحياة السياسية في الوطن العربي

انتهى العصر الذهبي للأحزاب السياسية في الوطن العربي، بيسارها واليمين، وانتهى، بالتالي، زمن الصراع بالعقائد والافكار، ومحاولات التغيير عبر استقطاب الجماهير و”تحييد” الجيش والقوات المسلحة، حيثما أمكن.

واذا ما استثنيا مشروع الانقلاب الفاشل الذي دبره رشيد عالي الكيلاني في العراق، يمكن البدء بانقلاب الزعيم حسني الزعيم في سوريا في آذار العام 1949، مباشرة بعد “النكبة” في فلسطين وقيام دولة اسرائيل في 15 ايار (مايو) 1948..

ولسوف تتوالى الانقلابات العسكرية في سوريا طوال السنوات العشر التالية مع “استراحات” مدنية متقطعة حتى 22 شباط من العام 1958 حين “التجأت” سوريا الى مصر بقيادة “زعيم الامة” حينها، جمال عبد الناصر، في دولة الوحدة: الجمهورية العربية المتحدة..

أما الاحزاب السياسية فقد اطلت على الحياة العربية العامة في العشرينات من القرن الماضي وكان أقواها ـ شعبياً ـ حزب الوفد بزعامة سعد زغلول، وقد اكتسب اسمه من وفد التفاوض مع بريطانيا من اجل استقلال مصر (الخاضعة آنذاك للاحتلال البريطاني) الذي استقر في مصر في العام 1881 ـ والذي ووجه بثورة عرابي التي تم اجهاضها ليبقى النظام الملكي حتى 1952 مع الملك فاروق الذي اسقطته ثورة الجيش بقيادة جمال عبد الناصر ومعه تنظيم الضباط الاحرار، وخلع الملك واعلان الجمهورية.. وكان حزب الوفد قد خسر الكثير من شعبيته نتيجة خضوعه للضغوط البريطانية وقبول مصطفى النحاس تشكيل حكومة “ملكية”.

بعد ذلك ستتوالى الانقلابات العسكرية في البلاد العربية: ثورة 14 تموز 1958 في العراق بقيادة الزعيم عبد الكريم قاسم (ومعه عبد السلام عارف) التي سرعان ما تصادمت مع دولة الوحدة ومع جمال عبد الناصر.. وهددت بغزو الكويت، ثم اسقطها انقلاب جديد بقيادة عبد السلام عارف ومعه حزب البعث العربي الاشتراكي في 8 شباط 1963. وقد ذهبت قيادة هذا الانقلاب إلى القاهرة لمفاوضة عبد الناصر على الوحدة .. وكانت تلك خديعة سرعان ما انكشفت، وانتهى امرها.

في 14 ـ 17 تموز (يوليو) 1968 قام حزب البعث (مع العسكر) بانقلاب جديد قاده احمد حسن البكر وابن اخته صدام حسين الذي سيحكم العراق حتى 2003.

خلال هذه الفترة أقام صدام حسين حكما دكتاتوريا، بواجهة بعثية واستعداد هائل للمغامرات العسكرية: فهاجم إيران الثورة الاسلامية بقيادة الامام الخميني، بعد فترة قصيرة من انفجارها الشعبي العظيم وتمكنها من خلع الشاه محمد رضا بهلوي، وإعلان الجمهورية الاسلامية. ولقد امتدت هذه الحرب لمدة سبع سنوات كاملة، وانتهت “بانتصار” عسكري وهزيمة سياسية لصدام حسين…

بعد ذلك، وعبر تصفيات دموية شملت في من شملت القيادات التاريخية لحزب البعث كما الاحزاب الأخرى، تقدم جيش صدام حسين في مغامرة جديدة تمثلت بغزو جارته الصغيرة، الكويت، واحتلالها عام (1991). لكن هذا الاحتلال استنفر العالم كله ضد صدام حسين، فأنشأ الاميركيون جيشاً شاركت فيه بعض الدول العربية والحقت هزيمة شنيعة بالجيش العراقي عام (1992)، ودخلت القوات الاميركية فاحتلت بعض العراق… ثم اكملت القوات الاميركية احتلال العراق وتدمير مدنه ونهب آثاره وسحق الجيش العراقي، وفرض الاستسلام على صدام حسين (نيسان ـ ايار 2003)، ومن ثم تم تسليمه لبعض الميليشيات الشيعية، لتكون فتنة تدمر العراق، خصوصاً وان صدام حسين القى خطبة قومية عصماء ضد الاحتلال الاميركي.. الذي نهب مكتبات العراق والآثار النادرة فيه، والتي تلخص بدايات التاريخ الانساني.

أما في سوريا، فقد توالت الانقلابات العسكرية فيها.. بعد انهيار دولة الوحدة بانفصالها عن مصر عبد الناصر.. وشارك البعثيون والقوميون العرب في بعضها..

في 19 تشرين الثاني 1970، وبعد وفاة عبد الناصر بأربعين يوماً تولى الحكم في سوريا الفريق ـ الطيار حافظ الاسد، ودائماً باسم حزب البعث. ولسوف يمتد هذ الحكم لثلاثين سنة متصلة، انتهت بوفاة الاب ليتولى الرئاسة نجله بشار الاسد (بعد وفاة الابن الاكبر باسل في حادث سير..) ودائماً باسم حزب البعث الذي غدا حزب سلطة، خصوصاً وقد منعت الاحزاب الاخرى من العمل، او ابقيت رمزياً في إطار “جبهة وطنية” مهمتها المصادقة على ما يقرره الحزب الحاكم بعد أن يجيزه “السيد الرئيس”.

أما لبنان الذي كان على الدوام، المرآة العاكسة لما يجري في المشرق العربي مع تأثيرات غربية (فرنسية اساسا، ثم فرنسية بريطانية مع الحرب العالمية الثانية قبل أن تتقدم الولايات المتحدة الاميركية لتحتل المسرح).

وهكذا انشأت في لبنان، ومنذ الثلاثينات احزاب طائفية (الكتائب والكتلة الوطنية ـ للموارنة) النجادة (للسنة) واحزاب علمانية (الشيوعي وكان حزباً واحداً في لبنان وسوريا ثم انفصل اللبناني عن الحزب الشيوعي السوري الذي ظل خالد بكداش قائده، حتى وفاته)، حزب البعث الاشتراكي، وكانت له قيادة قطرية محلية لكن قيادته الفعلية ظلت لميشال عفلق وصلاح البيطار وأكرم الحوراني ـ في سوريا ـ ثم انتقلت القيادة، أو من تبقى منها (عفلق) إلى العراق، حيث اشهر اسلامه، وتوفي ودفن في بغداد.


لا ضرورة طبعاً للحديث عن حياة حزبية في اقطار الجزيرة والخليج..

ربما كان تنظيم الاخوان المسلمين قد وجد الملجأ، احيانا، في بعض هذه الأقطار، إما نكاية بجمال عبد الناصر، او لضبط حركة قياداته ووضعها تحت مراقبة دائمة..

تميزت البحرين، في ماضيها القريب، بحيوية سياسية، وشاركت نخبها في الحياة العامة.. ثم انقلب النظام على ذاته في ظل الامير الحالي الذي نادى بنفسه ملكا، واعتقل المناضلين المنتمين إلى احزاب قومية او تقدمية (البعث، الشيوعي، حركة القوميين العرب الخ) لمدة طويلة (15 سنة..) فلما تم الافراج عنهم خرجوا إلى عالم لا يعرفونه، وعاشوا في ذاكرتهم سنوات نضالهم صامتين..

أما في الكويت فقد تم السماح بالعمل الحزبي في بدايات الاستقلال، فكانت حركة القوميين العرب (بقيادة الدكتور احمد الخطيب) ناشطة، ونجح لها نواب في أول مجلس امة، وفي الثاني.. ثم خفت صوتها بعدما انصرفت القيادة العليا الفلسطينية بأمينها العام الدكتور جورج حبش (ومعاونه الدكتور وديع حداد) إلى العمل الفدائي ضد الاحتلال الاسرائيلي، وكان من ابرز العمليات في هذا السياق خطف طائرات اسرائيلية في عواصم غربية، اضافة الى العمليات الفدائية ضد الكيان الاسرائيلي الخ.. باسم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.


لا ضرورة للقول إن العمل الحزبي، بكافة منطلقاته واشكاله، محرم في السعودية وان كان العارفون يقولون إن ثمة خلايا لأكثر من حزب في تلك المملكة التي يغلفها الصمت والذهب.

التنظيم الوحيد الذي دوى وجوده في العالم كان عصبة من الاسلاميين بقيادة جهيمان العتيبي.. وقد نفذوا عملية اقتحاميه فريدة في بابها:

فذات فجر من العام 1979، قامت مجموعة من المقاتلين باجتياح الكعبة المشرفة في مكة المكرمة، واستولوا عليها.

ولم يكن في السعودية من القوات العسكرية من هو مؤهل لتحرير الكعبة والقضاء على هذا التمرد فتمت الاستعانة بالقوات الخاصة الفرنسية والاردنية، وبإشراف اميركي طبعاً.. وتم التحرير، وألقي القبض على معظم افراد التنظيم، وتم اعدام أكثر من ستين منهم، وارتاح الملك خالد وولي عهده الامير فهد وأمير منطقة الرياض الامير سلمان ـ الملك الآن ومعه ولده الامير محمد بن سلمان ولي العهد الحالي، بعد خلع ولي العهد الاسبق، الامير مقرن بن عبد العزيز، ثم ولي العهد الثاني الامير محمد بن نايف.


اليوم يكاد الوطن العربي، بمشرقه ومغربه، بلا احزاب تقريباً، الا ما تبقى من مستنقذات الماضي..

وها هي الانتفاضة الشعبية في الجزائر تتجاوز جبهة التحرير الوطني التي كان لها دور تاريخي في تحرير البلاد من الاستعمار الاستيطاني الفرنسي.. ويتذرع العسكر بأنه لا يجد من يستحق أن يسلمه السلطة من الحزب القديم او الاحزاب الجديدة.. برغم استمرار الانتفاضة الشعبية والتظاهرات المليونية منذ اكثر من 3 شهور.

كذلك فان الانتفاضة الشعبية الرائعة في السودان تجد نفسها الآن، وبعد شهرين من التمترس في الشارع، وفيها اضافة إلى “الاحزاب المحلية” وأبرزها حزب الأمة، الحزب الشيوعي الذي لعب دوراً مهما في الماضي في مواجهة مع العسكر الذي يساومها على حصته في السلطة الجديدة..

لقد الغت السلطات الدكتاتورية “الشعب” في مختلف البلاد العربية عبر تحريم العمل الحزبي وحتى النقابي المنظم، بعدما سيطرت بإسمها، غالباً، على الحكم.

ولا أمل في التقدم الا بحياة سياسية تؤكد حضور الشعب، بوصفه مصدر القرار.

تنشر بالتزامن مع جريدة “القدس” الفلسطينية

Exit mobile version