يعيش لبنان “زفة” انتخابية غير مسبوقة مع اقتحام العنصر النسائي الحلبة بأعداد غير مسبوقة، وإن ظلت معظم المرشحات خارج القوائم المقفلة لزعامات الذكور.
ليس أمراً عارضاً أن تتقدم مائة وأحد عشر امرأة لخوض المعركة الانتخابية، بعضهن لم يظهرن في مجال النشاط العام، وان كانت كثرة منهن ينتسبن إلى جمعيات وهيئات اجتماعية N.G.O تتلقى مساعدات من الخارج (الاتحاد الاوروبي ومؤسسات رعاية وجهات دولية مغلفة بالضباب..)
هي ظاهرة صحية، من حيث المبدأ. ولعل القانون الانتخابي الجديد معززاً بلغز “الصوت التفضيلي” قد شجع الشباب عموماً والصبايا خصوصاً على خوض هذه التجربة الديمقراطية شكلاً، أوالتقليدية في أصلها ومردودها.
وطبيعي أن الزجالين من أهل الطبقة السياسية قد وجدوا في إقدام الصبايا على خوض المعركة الانتخابية في لبنان سبقاً فريداً في بابه، برغم أن المجالس النيابية في العديد من البلاد العربية تضم نواباً من الجنس اللطيف بالتعيين غالباً، وبمنطق التلوين والتباهي بادعاء التقدم وتوحيد النظرة إلى حقوق الانسان، ذكراً كان ام أنثى..
كذلك فان حكومات عربية عدة (مصر، سوريا، العراق.. وابو ظبي) تضم نساء، يختارهن في الغالب الاعم الرئيس او الملك او الشيخ الحاكم للتدليل على عصريته وتنازله ـ ولو بشكل محدود ـ عن “الحكم الذكوري”، مجاراة لقانون التقدم الانساني.
معروف سلفاً أن مرشحات معدودات سيفزن بمقاعد نيابية محدودة، هن المرشحات على قوائم الزعامات التقليدية التي لا تقبل الخرق… وهذا بذاته ليس انتصاراً للنشاط الاجتماعي النسوي ولا هو اقرار بجدارة المرأة بتمثيل مجتمعها، بل هو أقرب إلى العملية التزينية “لديمقراطية” الزعامات الرجالية و”عصريتها”، واستبعاد لبعض المستحقين من المرشحين الخارجين على طاعة “الزعيم” الذي أن شاء نائباً قال: كن فيكون!
هذا لا يعني، بطبيعة الحال، أن ليس بين صبايا لبنان، وبينهن نسبة ملحوظة من الجامعيات والناجحات في ميادين العمل الاجتماعي المختلفة (الطب، الهندسة، التعليم، الدراسات العليا الخ..) من هن جديرات بتمثيل المجتمع التي ما تزال النزعة الرجالية تغلب على خياراته.
لكن المجتمع ما زال محكوماً بنزعة ذكورية طاغية، لعل بين اسبابها أن مختلف المراكز القيادية، في الدولة والانشطة العامة، ما تزال حكراً على الرجال، حتى حيث تتولى النساء مهام التحضير والإعداد والدراسة وتهيئة المناخ لقبول “المقرر”.
إن حركة التقدم في لبنان “مدينية”، وهي في بعض مظاهرها “مستوردة”، برغم أن الارياف ليست بعيدة عن العاصمة ومراكز المحافظات.. لكن المسافة بعيدة جداً بين بيروت و”الضاحية”، وبين بعض طرابلس وبعضها الآخر، فضلاً عن المسافة بين طرابلس وعكار وبشري، او بين زحلة وبعلبك والهرمل، او بين بيروت وصيدا.. بل بين صيدا الواجهة البحرية وصيدا الداخل، وكذلك طرابلس وضواحيها.
ليست الثياب آخر موضة والتحدث بلغة اجنبية بين علامات التقدم الاجتماعي، فلا عيب في اللغة العربية التي هجرها اهلها وكفوا عن “تحديثها” وإضافة المستجد من العلوم والمبتكرات اليها، كما كان يفعل الاولون..
إن الاميركي والفرنسي والالماني والبريطاني، وكذلك الياباني والصيني وحتى الكوري، يأخذ بأسباب التقدم الانساني، ولكنه لا يهجر لغته وتقاليده ولا يحقر تاريخه او يتنصل منه. ومن حق العربي، أن يعتز بالصفحات المشرقة في تاريخه حيث كان الاعظم تقدماً في العلوم والطب والهندسة والفلك، فضلاً عن اللغة التي ما تزال حتى اليوم، بأبجديتها وبفضل القرآن الكريم، مقدسة ومحفوظة في وجدان ثلث البشرية..
المهم، أن الانتخابات النيابية في لبنان ليست معياراً للديمقراطية، ولا هي تحدد مرتبة المجتمع في حركة التقدم الإنساني.. وبالتالي فليست هي الحكم في جدارة النساء على تمثيل الشعب، كما انها ليست الحكم في جدارة الرجال على القيام بهذا الواجب الوطني..
لكن الواجب هنا يحتاج وطناً،
وفي لبنان فان “النظام” يلغي الوطن، والطائفية والمذهبية هي المعيار البديل القاتل للوطنية.
والانتخابات في نظام طوائفي بالأساس والجوهر كما بالتفاصيل المملة طوائفية.. ومذهبية: القانون طائفي، والدوائر مقسمة على اساس طائفي، والترشيح على قاعدة طائفية.. فكيف يكون المجلس “وطنياً”؟!
وهذا ينطبق، بطبيعة الحال، على الرجال والنساء، مرشحين ومرشحات وناخبين وناخبات..
من أين تأتي الديمقراطية إلى هذا الجحيم الطوائفي؟!
ومع التحية لشجاعة الـ 111 امرأة وصبية على خوض الانتخابات النيابية مع وعيهن ومعرفتهن التفصيلية بعيوب القانون الانتخابي وبدعة الصوت التفضيلي التي اقتطعت من النسبية وأهمل ما تبقى من موجبات ليحدث الفارق، فان النتائج ستظل محكومة بالقواعد المرعية الاجراء التي رافقت “حروب” الانتخابات السابقة، حتى لو اختلفت النتائج في بعض الدوائر نتيجة للتحالفات المستجدة.
هو مهرجان استعراضي آخر بين الزعامات التقليدية وأصحاب رؤوس الاموال، لا فرق بين أن يكون مصدرها العمل في الخارج او العمل للخارج، او النهب المنظم للمال العام في الداخل.
ولبنان، في نهاية الامر، ليس جزيرة في المحيط، بل هو جزء من هذا الوطن العربي الكبير الممنوع من التعرف إلى الديمقراطية فضلاً عن ممارستها..
تنشر بالتزامن مع السفير العربي