طلال سلمان

عن الامام موسى الصدر… واللقاء الاخير في طرابلس ـ ليبيا

كسر الامام موسى الصدر الصورة التقليدية لرجل الدين، متجاوزاً التبشير والوعظ وتسفيه الاديان الاخرى، مغلباً القضية الاجتماعية على الولاءات السياسية، وهو يتقدم الصفوف لينشئ حركة المحرومين (“امل”) التي كان المرحوم رياض طه، نقيب الصحافيين الاسبق، يقول انه من ابتدعه اختصاراً لما يشير اليه: (افواج المقاومة اللبنانية) أي مقاومة العدو الاسرائيلي.

ولقد سرت كلمات “السيد موسى”، ومن ثم “الامام” بين الناس، على اختلاف انتماءاتهم الدينية والمذهبية، سريان النار في الهشيم، وكان طبيعياً أن يكون الفقراء والمهمشين والمحاصرين بالطائفية ومعها المذهبية طليعة جمهوره الذي اخذ يتعاظم مخترقاً سدود الطوائف والمذاهب، معيداً الاعتبار إلى القضية الاجتماعية، مسقطاً الكثير من الشعارات السياسية المفرغة من أي مضمون.

صار “السيد” زعيماً وطنياً كبيراً في مختلف انحاء لبنان، جنوباً وشرقاً وشمالاً وصولاً إلى بيروت وضواحيها، فصلى ووعظ في جماهير مارونية وارثوذكسية وسنية ودرزية اضافة إلى الحشد الشيعي الذي تجاوز الجنوب إلى بعلبك ـ الهرمل وبيروت بضواحيها المختلفة.. بل أن وهج مقامه الجليل قد تجاوز لبنان إلى سوريا حيث كان له جمهور عريض، فإلى القاهرة، حيث التقى شيخ الازهر وأفاد من الموقف القومي لرائد حركة الثورة العربية، جمال عبد الناصر، في كسر حدة الافتراق المذهبي، وإلزام الازهر باعتماد “الشيعة” كمذهب خامس من مذاهب الدين الاسلامي.

على امتداد الستينات ثم السبعينات كانت مكانة الامام موسى الصدر تعلو وتعلو وإشعاعه يمتد إلى اقطار عربية عدة، فضلاً عن إيران التي كان يبشر بالثورة فيها، من خارج الدائرة المحيطة بالإمام روح الله الموسوي الخميني قبل أن يعود إلى طهران منتصراً.

كانت المقاومة الفلسطينية قد باشرت عملياتها ضد العدو الاسرائيلي انطلاقاً من بعض أطراف الجنوب، المحاذية لحدود فلسطين مباشرة بعد هزيمة العرب في حزيران 1967.وكان طبيعيا أن تتحرك او تحرك حساسيات واشكالات طائفية ومذهبية، مما حدا بالرئيس الراحل جمال عبد الناصر إلى التدخل.. وهكذا تم ترتيب اللقاء بين عرفات وقيادة الجيش اللبناني (العماد الراحل اميل البستاني) بموافقة ورعاية الرئيس الراحل رشيد كرامي، رئيس الحكومة اللبنانية آنذاك الذي اناب عنه من يمثله.

في “ايلول الاسود” 1970 تفجر الاردن باشتباكات عنيفة بين جيشه الملكي والمقاومة الفلسطينية بقيادة عرفات، وسقط المئات من القتلى والجرحى، امام نظر العدو الاسرائيلي.. وهكذا اضطر الرئيس الراحل جمال عبد الناصر إلى التدخل، فعقدت قمة عاجلة في القاهرة جمعت الطرفين، وتم الاتفاق على أن يغادر مقاتلو المقاومة عمان إلى جرش.. وتم ذلك بالفعل، لكن اكثرية المقاتلين اكملت رحلتها إلى بيروت ومناطق اخرى من لبنان، لتتخذ منه منطلقا لعمليات فدائييها، ثم من بعض انحاء الجنوب منصات لإطلاق الصواريخ من الارض اللبنانية‘ سرعان ما يأتي الرد الاسرائيلي عليها فيدمر ويقتل في القرى الحدودية.

تفاقم الوضع خطورة في الجنوب.. فتكررت الاعتداءات الاسرائيلية قبل أن تتحول إلى اجتياح محدود، اواخر صيف العام 1972. ثم تفاقمت الاجتياحات حتى بلغت مصب نهر الليطاني (القاسمية) قرب شواطئ صور.. قبل أن يندفع العدو إلى رعاية انشقاق محدود في الجيش اللبناني قاده ضابط عميل يدعى سعد حداد.

بعد ذلك ركز العدو الاسرائيلي على انشاء “قوة لبنانية” تواجه المقاومة الفلسطينية ومن معها من القوى السياسية اللبنانية، وهكذا استخدم العميد انطوان لحد لإنشاء “جيش عميل” يحمي بصدوره جنود جيش العدو.

وكانت بعض القوى السياسية قد عرفت الطريق إلى لقاءات مع الاسرائيليين، فزار قياديون على رأسهم الرئيس الاسبق كميل شمعون والشيخ بيار الجميل ومعه نجله الشيخ بشير الذي سيدعمه العدو الاسرائيلي بعد ذلك ليصير، بالقوة رئيساً لجمهورية لبنان، بعد اجتياح اسرائيلي واسع بلغ بيروت في صيف العام 1982وارتكب سلسلة من المجازر اشهرها في مخيم صبرا وشاتيلا.. لكن ذلك حديث اخر فلنعد إلى موضوعنا: الامام المغيب السيد موسى الصدر.

******

في اواخر اب 1978 ذهبت بصحبة عدد من الزملاء والاصدقاء إلى طرابلس لإجراء “حوار فكري ـ سياسي” مع قائد الثورة، مبدع “الكتاب الاخضر” و”النظرية العالمية الثالثة” العقيد معمر القذافي.

كانت قد جرت العادة أن يُدعى آلاف الضيوف لحضور “العيد” في حين أن فنادق طرابلس لا تستوعب هذه الاعداد، فتسود الفوضى وينام كل ثلاثة او اربعة في غرفة واحدة، وقد يسافر النزيل ومعه مفتاح غرفته، فيسلمه إلى “ضيف” ذاهب إلى طرابلس، طالما أن الكل “ضيوف” ولا أحد يدفع بدل اقامته.

لاحظنا عند وصولنا إلى فندق الشاطئ يوم 28 اب 1978 ما يؤكد وجود الامام الصدر في الفندق، فقد التقينا رفيقه في تلك الرحلة الزميل عباس بدر الدين، وهكذا قصدنا جناحه ليلاً، وقد حمل الزميل الراحل اسعد المقدم بعض العنب المن دون بزر اليه كهدية رمضانية متواضعة.

جلسنا إلى الامام لأكثر من ساعتين وتبادلنا احاديث كثيرة.. على أن ابرز ما قاله لنا الامام موسى الصدر هو تأكيده: “سأغادر قطعا قبل “الفاتح” ـ أي اول ايلول 1978 ـ لأنني لا اريد أن اجلس على المنصة خلفه واسمعه يهاجم هذا او ذاك من الرؤساء والملوك العرب، ويبشر بنظرياته التي اظن ن احداً يفهمها..

عدنا إلى غرفنا مع انتصاف الليل.. ومنذ تلك اللحظة لم نعد نلمح أثراً لوجود الامام ولا لرفيقيه الشيخ محمد يعقوب والزميل بدر الدين. وكان منطقياً أن نفترض انه قد غادر ليبيا، كما أكد لنا-جازماً خلال اللقاء قبل 24 ساعة.

لم نعرف “باختفاء” الامام موسى الصدر، الا بعد عودتنا إلى بيروت.. اذا توالت عليّ الاتصالات تسألني عن “الامام”.

ثم تحولت الاسئلة إلى تظاهرات غضب واعتصامات ومطالبة بضرورة تحري الحقيقة.. واتصلت الحكومة ببعض كبار المسؤولين في ليبيا تسألهم عن مصير “الامام” فقيل لهم: وماذا في الامر؟! تعالوا خذوا كل الشيوخ في ليبيا.

*****

بعد تفجر الثورة الاسلامية في إيران في اوائل العام 1979 سافرت إلى طهران لاستكمل ما كنت بدأته من التحقيقات عنها، سيما وانني كنت قد التقيت الامام الخميني في “منفاه” الفرنسي، بعد طرده من العراق ثم من الكويت، واستضافته في ضاحية “نوفل لي شاتو”.

زرت الامام الخميني في المدرسة العلوية في قم، بصحبة الشهيد محمد صالح، واجريت مع القائد المنتصر اول حوار بعد عودته إلى بلاده ليستقبله ملايين الايرانيين وتواكبه في تنقلاته للتبرك من طلته..وهي تبكي فرحاً!

ثم عدت إلى طهران فالتقيت عشرات من القياديين ورجال الدين البارزين، وبينهم قادة “الحزب الجمهوري” الذي كان قيد التأسيس.. والذين قضوا في تفجير مقر هذا الحزب.

ذات ليلة، عدت إلى الفندق حوالي العاشرة ليلاً، لافاجأ “بضيفين” ليبيين هما ابراهيم البشاري (وهو أحد رجال المخابرات) وسعد مجبر (وهو مثقف محترم كان يشغل مدير وكالة الانباء الليبية).

قال ابراهيم البشاري: العقيد يريدك غداً، أن امكن، في طرابلس، لأنك تعرف مدى اهتمامه بالثورة في ايران ويريد أن يزورها بأسرع ما يمكن..

حاولت الاعتذار بعدم قدرتي على السفر، وانني احمل في جعبتي محاورات وانطباعات مهمة عن الثورة الاسلامية في إيران… لكنهما تعهدا بان يوفرا طائرة خاصة تأخذني فالتقي “الاخ معمر” ثم تعيدني إلى طهران في اليوم التالي أو الذي بعده.

لم اتعب في التفكير لأعرف أن السبب المباشر لهذه الدعوة الفورية هو موضوع الامام موسى الصدر، الذي ظل يقفل طريق طهران امام القذافي حتى رحيل الامام الخميني… ثم مقتلة “العقيد” إثر الانتفاضة الشعبية في ليبيا في 17 فبراير (شباط) 2011 ؟؟

وللحديث بقية في وقت لاحق..

 

Exit mobile version