طلال سلمان

عن اكراد العراق و”دولتهم” المعزولة: احوالهم هي الافضل بين سائر اشقائهم في المحيط

كلما افترض “المواطن العربي” أن احوال امته العريقة، بدولها العديدة، قد بلغت قعر الهاوية، سياسياً واقتصادياً، ثقافياً وعسكرياً بدل التقدم بما يليق بتاريخها، انتبه ـ فجأة ـ أن للقعر قعراً ثانياً وثالثاً ورابعاً الخ وان عصر النزول لما ينتهِ.

أين وكيف يمكن تحديد بداية التدهور؟

تختلف الآراء باختلاف الهوى السياسي او الغرض او الاحقاد المختزنة او الآمال والطموحات المجهضة..

فمن قائل أن البداية كانت في استيلاء العسكر على الحكم اثر نكبة فلسطين في العام 1948، وقد بدأت بسلسلة الانقلابات في سوريا، قبل أن تتفجر ثورة يوليو (1952) في مصر، ثم ثورة العراق بقيادة عبد الكريم قاسم في العراق (1958)، ثم الانقلاب الذي اودى بوحدة مصر وسوريا في العام 1961، ثم بعد ذلك ثورة اليمن (1962) التي انهت حكم آل حميد الدين، وانتهت بثورة القذافي ورفاقه الضباط في ليبيا الذين انهوا حكم الملك السنوسي (1969)، من غير أن ننسى استيلاء حزب البعث بواجهة عسكرية ايضاً على السلطة في العراق (1968).

إلى قائل: بل أن البداية كانت في الخامس من حزيران (يونيه) 1967، او “النكسة”، كما اسميت تخفيفاً من وقع كلمة “الهزيمة”، إلى قائل: بل هي في 28 ايلول (سبتمبر) 1970 موعد رحيل القائد العربي العظيم جمال عبد الناصر.. وقبلها مباشرة المذابح التي نظمت ضد المقاومة الفلسطينية في الاردن فرحلت بمن سَلِم من مقاتليها إلى لبنان بعنوان بيروت..

..الى من يجزم ويؤكد أن الهزيمة الشاملة قد وقعت حين اوقفت “حرب تشرين ـ اكتوبر ـ رمضان المجيدة” في تشرين 1973، والتي اعقبتها زيارة الراحل انور السادات إلى فلسطين المحتلة وخطابه امام الكنيست الاسرائيلي، وصولاً إلى معاهدة كمب ديفيد.

.. إلى من يقرر مؤكداً: بل هي مغامرات صدام حسين التي بدأت بإعلانه الحرب على ايران الثورة الاسلامية بقيادة آية الله روح الله الخميني، وهي الحرب التي امتدت غزيرة الدماء عظيمة الكلفة لمدة سبع سنوات عجاف… ثم غزوة صدام حسين الكويت في 2 اب (اغسطس) 1990 والتي انتهت بتدمير العراق، بجيشه اساساً، في العام 1991 ـ 1992..

..من غير أن ننسى الحرب الاهلية في لبنان والتي شارك فيها، بالقصد او بالتورط معظم العرب، حتى لا نقول جميعهم، والتي امتدت وتمددت مراحلها ما بين 1976 و1990، وقد تخللتها هدنات كثيرة، اولها بعد الغزو الاسرائيلي للبنان بعاصمته وسراي الحكم فيه في اوائل حزيران (يونيه) 1982 ولشهور طويلة تم له خلاله بالتعاون مع بعض القوى السياسية اللبنانية ارتكاب مجزرة في المخيمات الفلسطينية، عند باب بيروت (صبرا وشاتيلا).

ولقد حقق الغزو الاسرائيلي للبنان اجلاء المقاومة الفلسطينية عنه واجلاء قيادتها إلى تونس في حين تم ترحيل المقاتلين إلى اقطار عربية عدة، لا سيما الابعد منها عن فلسطين.

*****

ها نحن امام مواجهة أخرى كانت المصلحة، كما المنطق، تفترض امكان تجنبها، وهي تلك التي تسببت بها الخطوة المرتجلة التي أقدم عليها مسعود البرازاني والتي تضرب مشروع وحدة العراق واستعادته الحد الادنى من عافيته، بعد القضاء على “داعش” واسقاط دولتها في الموصل ومتابعة استئصال تفرعاتها في مختلف انحاء العراق، وصولاً إلى سوريا.

صحيح أن المسألة الكردية متشعبة، ومعقدة، نتيجة عوامل جغرافية وتاريخية قبل أن تكون سياسية او عنصرية.. ذلك أن قدر الاكراد جعلهم يتوزعون، جغرافيا، على أربع دول على الاقل هي: العراق، إيران، تركيا وسوريا. والحقيقة أن الاكثرية المطلقة من الاكراد موجودة في تركيا وعديدها يزيد على 18 مليوناً، ثم هناك حوالي خمسة ملايين كردي في إيران، وحوالي اربعة ملايين في العراق إلى حوالي المليون كردي او أكثر قليلا في سوريا.

وليس من باب التعصب “القومي” القول أن الاكراد في الدول العربية، ولا سيما العراق، قد حظوا ـ وتحديداً بعد اسقاط حكم صدام حسين ـ بمعاملة اكثر عدالة مما يعامل بها الاكراد في سائر البلاد الاخرى (تركيا خاصة)، علما بأن اوضاع اكراد سوريا افضل بما لا مجال لمقارنته بأوضاعهم في البلاد غير العربية. يكفي التذكير أن اربعة على الاقل من رؤساء الدولة في سوريا، في مرحلة الانتداب الفرنسي ثم في العهد الاستقلالي الاول كانوا من الاكراد.. وكذلك كان من بين اكراد العراق مسؤولون كبار ووزراء الخ..

*****

يمكن القول أن العلاقة بين النظام في بغداد وأكراد العراق قد مرت بمراحل متعددة، بلغت احيانا حدود التفاهم شبه الكلي، على نوع من الصيغة الاتحادية، ثم تفجرت صدامات تلتها معاهدات، وتوافق على الحكم الذاتي تلتها حرب مدمرة شنها صدام حسين وارتكبت خلالها مجازر بشعة اشهرها في حلبجة التي صارت رمزاً للقهر واستخدام القوة المفرطة في مواجهة مطلب سياسي لأقلية قومية.

على أن تلك القوة المفرطة قد استخدمها حكم صدام حسين مع اكثرية الشعب العراقي، لا سيما الشيعة، والمعارضين من السنة قبل الاكراد وبعدهم.

واذا كان الاميركيون قد رعوا ـ كقوة احتلال ـ تسليم السلطة، بأكثرية مقاعدها الرفيعة، إلى الشيعة، باعتبار انهم كانوا اصحاب ظلامة طوال المدة بين دخول الاحتلال للعراق في العام 1920 (وبعد الثورة الشعبية العظيمة فيه) وبين سقوط صدام حسين على أيدي الاحتلال الاميركي في العام 2003.

ولقد اساءت القيادة السياسية للشيعة كما للسنة، استخدام السلطة، وتصرفت بجهل ومن دون حكمة وبشبق إلى السلطة والمال (لا سيما معظم من شغل منصب رئيس الوزراء الذي اعطي صلاحيات رئاسية شبه مطلقة… بينما اعطي الاكراد منصباً شرفياً، إلى حد بعيد، هو رئيس الجمهورية اضافة إلى عدد من الوزارات المهمة (الخارجية، المالية الخ) في حين اعطي اهل السنة منصب رئيس المجلس النيابي، وهو مهم ولكنه اضعف الاطراف في دائرة القرار الذي يتحكم به رئيس الوزراء.

أعد دستور جديد، نص على أن يكون لأكراد العراق حكم ذاتي وبرلمان منتخب في مناطقهم، فضلاً عن حصة وازنة في الحكومة المركزية والمجلس النيابي.

كان “الحكم الجديد” معتلاً، منذ اللحظة الاولى… والاصوات ترتفع بالشكوى من استشراء الفساد والطائفية، وتدهورت سمعة الحكم برغم التبديل المتكرر للحكومات، وذاع صيت الرشاوى بشكل غير مسبوق وبحجم يتجاوز أي تقدير..

لم ينفع تبديل الحكومات في ظل الاستقطاب الطائفي والتدخل الدولي.. وعلينا أن نتذكر دائماً أن في العراق قوات اجنبية عديدة، أعظمها وجوداً وأقواها هي القوات الاميركية ومن معها من دول الغرب (بريطانيا وأستراليا الخ). هذا فضلاً عن النفوذ الايراني..

في هذه الاثناء كان مسعود البرازاني ومن معه يسحب وزراءه الاكفاء من الحكومة المركزية في بغداد ويستكمل الاستعداد لإعلان “دولته”، مستفيداً من السمعة السيئة ونقص الكفاءة في حكومات بغداد، فضلاً عن النعرات الطائفية والمذهبية.. محاولاً في الوقت ذاته التوسع على الارض (ضم كركوك)، وتقديم نفسه باعتباره حامي حمى الاقليات القومية والعرقية والدينية (الأزيديين، الصابئة، التركمان، السريان والكلدان)، مع الاشارة إلى أن العراق هو متحف حي للأعراق والقوميات والأثنيات السابقة على التاريخ المعروف..

وبطبيعة الحال فقد ووجه هذا التفرد، بل هذا التجرؤ على “الدولة المركزية”، برفض عراقي شامل، وبعدم اعتراف دولي تساوت فيه الولايات المتحدة الاميركية وروسيا وسائر الدول الغربية.. ولم تجرؤ اية دولة عربية على خرق هذا الاجتماع والتعامل مع “الامر الواقع” الجديد الذي فرضه مسعود برازاني الذي يشبهه البعض بـ”السلطان”.

والازمة خطيرة، ولا تبدو في الافق اية تباشير لحلها، خصوصاً وان العالم كله يرفض ـ علناً ـ تقسيم العراق، ويدعو إلى حل سياسي لهذه الازمة التي يأمل الجميع الا تطول والا تنحدر إلى المستنقع الدموي لتفسد الاخوة عبر التاريخ بين العرب والاكراد بعنوان صلاح الدين الايوبي!

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

Exit mobile version