طلال سلمان

عن اسرائيل و”غزواتها” العربية: هل أسقطت فلسطين من الذاكرة؟

منذ الخمسينات، أي مباشرة بعد إقامة الكيان الصهيوني على ارض فلسطين العربية في العام 1948، بالتأييد الدولي الكاسح الذي جمع بين المعسكرين المتصارعين، الولايات المتحدة الاميركية (ومعسكرها الغربي بعنوان بريطانيا وفرنسا الخ) والاتحاد السوفياتي (الذي كان بعد شيوعيا وقد زاده الانتصار في الحرب العالمية الثانية نفوذاً وقوة..).

منذ الخمسينات وقبلها بقليل وبالتزامن مع نكبة فلسطين بدأ التخطيط الغربي، وهذه المرة بالقيادة الاميركية، لإعادة الهيمنة على المنطقة العربية، لا سيما المشرق، بما فيه مصر (الملكية، آنذاك..)

هكذا تم انجاح اول انقلاب عسكري في سوريا بقيادة “الفيلد ماريشال” حسني الزعيم، لضرب الحكم الاستقلالي الذي كان الوطنيون قد نجحوا في ادارته، بعد خروج قوات الانتداب الفرنسي من سوريا، التي لم تهدأ انتفاضات شعبها منذ معاهدة سايكس ـ بيكو (1918) التي كان سبقها وعد بلفور (1917) لتقاسم المنطقة (المشرق) واقامة الكيان الصهيوني في فلسطين ..

وكان ذلك الانقلاب اول حضور علني للنفوذ الاميركي، لان الهدف الفعلي منه كان تمرير خطوط انابيب النفط السعودي إلى الشاطئ الفلسطيني، الذي استبدل في آخر لحظة بمنطقة الزهراني حيث اقيمت مصفاة التابلاين.

ولسوف تتوالى الانقلابات العسكرية في سوريا بتأثير الضغوط، عربياً، ودولياً، حتى إقامة دولة الوحدة (الجمهورية العربية المتحدة المشكلة من مصر وسوريا بقيادة جمال عبد الناصر)، وكان في جملة مقاصدها اضافة إلى تحقيق الحلم القومي التصدي لمشاريع الاحلاف الغربية التي كان الغرض منها اعادة استرهان المنطقة العربية جميعاً (مشروع ايزنهاور، حلف بغداد، مشروع الشرق الاوسط الجديد الخ).

نجحت الضغوط الدولية (والعربية) بفك عُرى الوحدة بالانفصال، وعودة سوريا إلى فيء النفوذ الدولي (ايلول 1961)، وتوالت فيها الانقلابات العسكرية حتى وصول قائد سلاح الطيران اللواء حافظ الاسد إلى سدة الرئاسة واستمراره فيها حتى وفاته في صيف العام 2000 حيث نصب نجله الدكتور بشار الاسد رئيساً.. وهو مازال في سدة الرئاسة حتى اليوم برغم ما شهدته وتشهده سوريا من حرب داخلية وحروب عليها من الخارج القريب (تركيا وفلول داعش) والخارج البعيد (زرع قوات اميركية “رمزية” في شرقها وشمالها..)

مع ذلك فقد شاركت سوريا مصر في صد الحرب الاسرائيلية ضدها، وخسرتاها معاً (احتلت اسرائيل سيناء والسويس وبعض الساحل، كما احتلت هضبة الجولان في سوريا وهددت دمشق قبل التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار).


ولسوف يغيب عبد الناصر، لكن خلفه انور السادات عاهد الرئيس السوري حافظ الاسد على المشاركة في حرب اكتوبر (تشرين) 1973، لكنه أوقفها بعد قفزة الجيش المصري بالعبور إلى سيناء، التي ردت عليها اسرائيل باحتلال شارون جزيرة الدفرسوار في مواجهة بورسعيد، ثم الانطلاق منها لاحتلال مساحات من ارض مصر، قبل التوصل إلى وقف اطلاق نار بوساطة اميركية قادها كيسنجر، وانتهت بتنازلات مصرية مفجعة توجها الرئيس انور السادات بالذهاب إلى القدس المحتلة… وكانت مفاجأة مذهلة للإسرائيليين قبل العرب، ثم الوقوف خطيباً امام الكنيست متقمصاً شخصية الداعية إلى السلام!

بعد تلك “الزيارة” ستفتح صفحة جدية في تاريخ الصراع العربي الاسرائيلي، وسيكون عنوانها مقاومة الاحتلال الاسرائيلي لجنوب لبنان، وهو قد باشره بذريعة صد المقاومة الفلسطينية التي كانت قد استقرت هناك (قيادة ومنظمات فدائية وجيش تحرير في لبنان) محاولة أن تتخذ من بعض مناطقه الحدودية مع فلسطين المحتلة منطلقاً لعملياتها ضد جيش احتلالها كما ضد المستعمرات القريبة.

..ولسوف تحتل القوات الاسرائيلية بعض الجنوب، حتى مصب الليطاني قبل صيدا بقليل في العام 1978، بذريعة إبعاد المقاومة الفلسطينية عن الحدود..

بعد ذلك سوف تنشأ المقاومة الاسلامية في لبنان (حزب الله) بدعم علني من ايران ورعاية سورية واحتضان شعبي في لبنان، لا سيما في جنوبه..

ولسوف تخوض هذه المقاومة معارك باسلة، استشهد فيها نخب من المقاومين، كما اضطرت قوات الاحتلال إلى التراجع في بعض المناطق، قبل أن تقرر الجلاء التام عن الارض اللبنانية فجر السابع عشر من أيار (مايو) العام 2000.

على أن العدو الاسرائيلي سوف يحاول الانتقام وذلك بأن شن حرباً شاملة، جواً وبحراً وبراً على لبنان، صيف العام 2006، لكن المقاومة صمدت لحربه، معززة بالتأييد الشعبي، واسقطت أكثر من طائرة حربية كما قصفت مدمرة اسرائيلية قبالة الشاطئ اللبناني غير بعيد عن العاصمة بيروت، وان حاول العدو تدمير القواعد الخلفية للمقاومة في البقاع وعلى امتداد طريق الشاطئ بين طرطوس والمرافئ اللبنانية، لا سيما بين بيروت والجنوب.


خلاصة الكلام أن اسرائيل التي اقيمت، بتواطؤ دولي عنوانه التآمر على مستقبل الامة العربية، قد استطاعت ـ تحت الرعاية الاميركية، وبفضل التخاذل العربي ـ أن تخترق العديد من العواصم العربية البعيدة عن فلسطين: مثل امارة قطر التي ذهبت اليها طلباً للحماية من الاجتياح السعودي (كما يزعم اميرها واتباعه..) بعد الاردن، الذي لحق بمصر في توقيع معاهدة صلح، وقبل دولة الامارات التي يتباهى نتنياهو بانه نال وعداً من مسؤوليها بفتح قنصلية فيها، وقبل سلطنة عُمان التي زارها ـ فجأة ـ فاستقبله في عاصمتها مسقط السلطان قابوس، بغير مناسبة او تبرير او “شراكة في الحدود”.

إن الكيان الاسرائيلي الذي أقيم بالحرب، بعد ضمان الرعاية الدولية التامة لمشروعه، منذ وعد بلفور في نهايات القرن العشرين (1917)، لا يمكن أن يستمر الا بالحرب، والتاريخ شاهد: بعد سنوات قليلة من إقامة هذا الكيان، بالحرب، وفي العام 1954، قام بأول عدوان مسلح على مصر.. وفي خريف العام 1956 شارك مع بريطانيا وفرنسا في العدوان الثلاثي على مصر، وفي 5 حزيران / يونيه 1967 شن الحرب على مصر ومعها سوريا، فاحتل منطقة قناة السويس وسط ملحمة عظيمة في بور سعيد، كما احتل هضبة الجولان في سوريا، وتلال كفرشوبا في جنوب لبنان.. بعدما كان احتل معظم الجنوب بديعوى مواجهة المقاومة الفلسطينية، ووصلت قواته إلى مشارف صيدا.

ولقد تعاهدت مصر ـ السادات مع سوريا حافظ الاسد على خوض حرب التحرير معاً في العام 1973 (حرب رمضان اكتوبر)، لكن السادات سرعان ما اوقف تقدم الجيش المصري في سيناء بعد القفزة الأولى وتدمير خط بارليف تاركاً الباب مفتوحاً امام الجنرال شارون كي يتقدم في بر مصر، مهدداً القاهرة ذاتها، ما فتح الباب امام الرئيس المصري انور السادات لإعلان وقف الحرب، متخلياً عن رفيقه فيها الرئيس السوري حافظ الاسد الذي اضطر إلى وقفها..

ولقد قام الرئيس السادات بزيارة الكيان الاسرائيلي وخاطب بلغة السلام اعضاء الكنيست وحكومة غولدا مائير، مطالباً برمي الحرب خلف ظهورنا والتقدم إلى.. عصر السلام!

لكن اسرائيل لم تدخل هذا “العصر” ابداً، فبعد سنة من معاهدة كمب ديفيد مع مصر، اجتاحت قوات العدو جنوب لبنان واحتلت معظم ارضه مع بعض البقاع الغربي..

ولم يتم جلاء قوات الاحتلال الاسرائيلي عن الارض اللبنانية الا بفضل المقاومة البطولية للمجاهدين الا في 17 ايار (مايو) العام 2000.

لكن هذا العدو سيعود إلى الحرب ضد المقاومة في لبنان في صيف العام 2006، لتلحق به شر هزيمة، وان كان قد اصاب بغارات طيرانه وقذائف مدفعيته لبنان بدمار خطير شمل العديد من قرى الجنوب ومدنه فضلاً عن ضواحي بيروت الجنوبية ومعظم طرق المواصلات في مختلف انحاء لبنان.


إن الكيان الاسرائيلي الذي اقيم بالتآمر الدولي جاء إلى فلسطين بالمتطوعين اليهود الذين جندهم في الحرب العالمية الثانية، ثم وفر لهم السلاح الثقيل وشبكات مخابراته الدولية..

وان بعض الانظمة العربية قد انخرطت في هذا التآمر، وقفزت من فوق “القضية المقدسة” فلسطين، لتعترف بالكيان الاسرائيلي بل وتوثق علاقاتها به إلى حد التآمر معه على سائر العرب.

انها مرحلة مهينة في التاريخ العربي الحديث، تذكر بمرحلة الاجتياح الغربي تحت راية الصليب (الحروب الصليبية)، وقد احتلت خلالها العديد من العواصم العربية.. لكنها اندحرت وخرجت فلولها من هذه الارض مهزومة، بعد مائتي سنة، بتوقيت القرن الخامس عشر..

وليس من الافراط في التفاؤل النظر إلى خريطة الوطن العربي مستقبلاً من دون أن نجد فيها هذه الدولة التي قامت بالحرب وبالحرب سوف تزول.

تنشر بالتزامن مع جريدتي “الشروق” المصرية و”القدس” الفلسطينية

Exit mobile version