طلال سلمان

عن اردوغان: آخر السلاطين ومحاولاته العبثية لإحياء إمبراطورية العثمانيين!

قبل سنوات تسنى لي أن ألتقي “السلطان” اردوغان في بيته الريفي في بعض ضواحي انقره..

كان علينا أن ننتظر اردوغان دقائق طويلة قبل أن “يهل” علينا وهو ما يزال يهتم بتسريحة شعره، ويطمئن إلى “انضباط” ربطة عنقه وجوانب سترته وكأنه ذاهب إلى عرض ازياء رجالي.

سلَّم علينا، ساطع نور الدين وانا، بأطراف أصابعه، وقال انه كان في لبنان منذ فترة وجيزة، ليطمئن على “رعايا السلطنة” ممن تبقى في بعض انحاء لبنان، ولا سيما في عكار.

تحدث عن منطقتنا العربية وكأنه ما زال يحكمها من موقع السلطان، وله حق تعيين الولاة وعزلهم.. وعندما ظهرت على وجهي ملامح الاعتراض، قال بثقة: التاريخ ظالم، يكتبه كذبة ويصدقه جهلة، لكن صِنَّاعه لا يهتمون!


اليوم، ومع كل صباح، يفاجئك السلطان بتحرك يؤكد لك انه يعمل، ليلاً ونهاراً، لاستعادة “املاك السلطنة” وامجادها:

§ تجده محاربا ضد سوريا وبذريعة “إبادة” اكرادها المشاغبين..

§ وتجده “محارباً” ضد اليونان، بسبب الخلاف على جزيرة قبرص الذي ادى إلى تقسيم الجزيرة الصغيرة إلى “دولتين” او “بلدتين”، الأولى احتضنها حلف الاطلسي، و”دولة” أخرى خربة ولكنها تؤكد “عظمة” السلطان.

§ وتجده مقاتلاً في ليبيا البلا دولة، منحازاً لسلطتها “الاممية”، منذراً بإرسال جيشه اليها للقتال ضد قوات الجنرال حفتر المدعوم من مصر، والذي تتقدم ارتاله المصفحة في اتجاه طرابلس… بينما “السلطان” يزور تونس فيستقبله رئيسها الديمقراطي مكرها، ويرفض بلطف عرضه المشاركة في “تحرير ليبيا”… بينما “السلطان” يتحدث عن ليبيا وما جاورها وكأنها ما تزال من املاك “السلطان”.


بائس هو المشهد العربي، يثير الحزن ويبتلع الآمال والطموحات ولحظات الاقتراب من الحلم بالوحدة وتحرير فلسطين وبناء الغد الافضل..

فأما الوحدة، او حتى الدعوة اليها، فتقع في خانة التحرير لأسباب متعددة بينها:

  1. إن الكيان الاسرائيلي بات اقوى مما كان في أي يوم، بسبب الدعم الاميركي ـ والغربي المفتوح.

ومما زاد هذا الكيان قوة تهاوي القضية المقدسة فلسطين بعدما تكاتفت الانظمة العربية ضد ثورة الشعب الفلسطيني واغرقتها بالمال والسلاح لتستمد من وهجها ما تنافق به شعوبها، وحتى حولت “الثورة” إلى سلطة أخرى تماثل “السلطة” في مختلف الدول العربية.. وكان بين الاسلحة في اواخر الستينات وبدايات السبعينات تدفق الذهب والسلاح على “السلطة” مما حولها إلى “حكومة” مثل سائر الحكومات العربية، وحول “الثوار” إلى موظفين يتقاضون رواتب مجزية وبالدولار، تاركين مهمة “التحرير” على عاتق بعض المتطوعين الوافدين من أقطار عربية بعيدة، وبعض المتطوعين بالأجر.. لتحرير فلسطين!

  1. وكان منطقياً أن ينتهي الأمر باتفاق اوسلو، الذي مهد للمصالحة “بين الذئب والضحية”.. وهكذا امكن لياسر عرفات أن يدخل فلسطين، بإذن اسرائيل في ظل حماية دولية، ثم أن يحول “المنظمة” إلى “سلطة” لا يتحرك “رئيسها” او “وزراؤها” إلا بإذن اسرائيلي وتصريح مسبق..

وكان منطقيا، بالتالي، أن تصير “السلطة” واحدة من حكومات “الدول” البلا نفط وبلا غاز وبلا دخل يكفي لإعالة شعبها، تعيش على “المكرمات” و”الصدقات” وما يسمح به العدو الاسرائيلي من ضرائب ورسوم.. وان يتحول “الفدائيون” إلى “شرطة ” يطارد رجالها كل من يفكر بـ”الاعتداء على الكيان الاسرائيلي”!

  1. يتصل بذلك أن الدول العربية اعتبرت انها “قامت بواجبها تجاه القضية المقدسة”، فتركت الشعب الفلسطيني “يقرر ما يراه مناسبا” مفترضة انها متعبة ولا بد أن ترتاح وتريح، بعد مساعدته على العودة إلى بعض ارضه، وليس على استعادة ارضه المقدسة ليقيم دولته المستقلة فوقها.

بالمقابل، كانت مصر خرجت من ميدان الصراع العربي الاسرائيلي بمعاهدة كمب ديفيد التي عقدها الرئيس الراحل انور السادات مع الرئيس الاميركي جيمي كارتر ورئيس الحكومة الاسرائيلية مناحيم بيغن المؤرخة في 17 سبتمبر ايلول 1978 والموقع عليها في العام 1979.

وكان السادات قد أقدم على تجاوز المحرم، وزار الكيان الاسرائيلي، وخطب امام الكنيست، داعياً إلى انهاء عصر الحرب والمباشرة ببناء عصر السلام.

كذلك فقد جاء الرئيس الاميركي ريتشارد نيكسون إلى سوريا في 15 حزيران 1974، بعد وقف اطلاق النار في “حرب تشرين”، لكن الرئيس حافظ الاسد رفض توقيع معاهدة سلام.. وسمع من نيكسون في غرفة جانبية ما مفاده “انتبه إلى كيسنجر. انه يهودي”.

ولسوف تستمر المفاوضات، متقطعة، بين واشنطن ودمشق، وكانت اهم مراحلها في جنيف حين انعقد لقاء قمة بين الرئيس الاميركي بيل كلينتون والرئيس السوري حافظ في جنيف، لم تستغرق الا بضع دقائق خرج بعدها الرئيسان متجهمين.. وفهم أن الرئيس الاسد قد أصَّر أن تشمل المفاوضات بحيرة طبريا “حيث وانا ملازم اول سبحت في مياهها ولست مستعداً لان اوقع معاهدة سلام لا يعود نصيبنا من هذه البحيرة إلى سوريا”.


نعود إلى تركيا وسلطانها اردوغان ومطالبته باستعادة املاك السلطنة العثمانية، وقد اشار إلى ليبيا وتونس وانحاء أخرى على انها بعض تلك الاملاك، وهاجم النظام في مصر لأنه يعقد الوضع في ليبيا ويعمل ضد “حقوق السلطنة” في املاكها خلف البحار.

إن “السلطان” متعدد الوجوه والمواقف:

انه ينافق العدو الإسرائيلي ويكاد يطلب اليه أن يحالفه، برغم الاهانات الجارحة التي وجهها اليه هذا العدو عندما استأجر بعض المتطوعين باخرة صغيرة تركية وتوجهوا فيها نحو شاطئ غزة حاملين بعض المؤن لشعبها حيث واجههم الجنود الاسرائيليون بالرصاص..

وهو يستقبل قادة الاخوان المسلمين الهاربين من مصر، مما يستفز النظام في القاهرة،

كذلك فهو يريد أن يكون عضواً فاعلاً في الحلف الاطلسي بشروطه المستحيلة، وهو “حليف مخلص للولايات المتحدة الاميركية”، ولكن في الوقت يريد شراء الصواريخ الروسية بعيدة المدى.

انه “السلطان”.. مع وعيه بان ايام السلاطين قد انتهت إلى غير رجعة.

لكن “السلطان” يحب العواصف: لذلك يتقدم لاحتلال بعض شمالي سوريا متحاشياً الصدام مع الجيش الروسي الذي يساند الجيش السوري..

ويحاول الوصول إلى آبار النفط في شرقي سوريا لكن العسكر الاميركي يسبقه اليها.

يقاتل الاكراد في سوريا، و”يتحالف” معهم في العراق، و”ينافقهم” في تركيا متحاشياً استفزازهم مما سيضيف اسبابا لاعتراضهم على نصيبهم في السلطة تحت رعاية “السلطان”.

والأيام ستحدد مصير آخر السلاطين بعدما زالت السلطنات جميعاً من الوجود.

تنشر بالتزامن مع جريدة “الشروق” المصرية

Exit mobile version