طلال سلمان

عن احمد بن بله الذي لا يغيب..

أسعدني زماني بأن أتاح لي أن اشهد، حاضراً، عودة الجزائر إلى اهلها وهويتها وتاريخها بالثورة المجيدة التي انهت مائة وخمسين عاماً من الاستعمار الاستيطاني الفرنسي.
كنت قد تلقيت عرضاً في صيف العام 1962 للذهاب إلى الكويت واصدار مجلة عن دار “الرأي العام” لصاحبها عبد العزيز المساعيد، فاشترطت ـ للقبول ـ أن أزور الجزائر فاشهد الحدث التاريخي، تحررها وقيام دولتها المستقلة، والتقي قادة ثورة المليون شهيد وهم يباشرون مسؤولياتهم باسم شعبها الذي حررها من دهر الاستعمار الاستيطاني المديد.. وهكذا كان.
التقينا مصادفة أربعة من “المشارقة” أمام مبنى “الجمعية التأسيسية” في قلب العاصمة: الزعيم الشعبي العراقي صديق شنشل، والصحافي اللبناني ـ رئيس تحرير مجلة “الحوادث” سليم اللوزي يصحبه صديقه البيروتي مصباح الكوش وأنا.
كان المشهد استثنائيا بكل المعايير: فالحدث تاريخي، وثمة دولة جديدة تنبثق من ارحام ثورة المليون شهيد معيدة للجزائر هويتها ومعيدة لشعبها حقه في الحياة الحرة تحت علمه الوطني المرسوم بالدم… ثم أن “النواب” المتقدمين نحو مجلسهم العتيد يندر بينهم السوي جسداً، فمنهم مقطوع الذراع او الذراعين ومنهم من هو بلا ساق او بلا ساقين يستعين بعكازين من اجل المشي، وبينهم من فقد عيناً او العينين يسلم قياده لرفيق يتقدم به نحو البرلمان ليمثل الشعب.
دخلنا المبنى متهيبين. قصدنا الشرفة لنرى المشهد التاريخي كاملاً وبتفاصيله…لمحنا فجأة المناضلة جميلة بوحيرد، فحاولنا الاقتراب منها، لكنه نفرت منا متسلحة بنظارتين غامقتي الزجاج، فأبعدنا صديق شنشل وتقدم اليها يقول بصوت متهدج: يا ابنتي، انا في عمر ابيك.. اسمحي لي فقط أن اقبل يدك.. وردت جميلة وهي تواصل الابتعاد عنا: سامحني يا عم.. أنا مش جميلة!
اتخذنا مقاعدنا في شرفة الزوار، وبدأت الجلسة بنشيد “اقسمت باسمك يا بلادي فاشهدي”، الذي كان بمثابة “النشيد الوطني”، ثم تليت المواد التي تؤكد شرعية المجلس المنتخب، برئاسة رئيس السن، تمهيداً لانتخاب رئيس المجلس وهيئة المكتب، قبل الانتقال إلى عملية انتخاب اول رئيس للجمهورية الجزائرية الديموقراطية، ففاز احمد بن بله بما يشبه الاجماع… وبعد عاصفة من التصفيق وقف احد النواب ليقول باللهجة الجزائرية: “ما تواخذونيش خوي.. تري انا ما اهدرش العربية، اهدر جزائري.. وانا والله نعرف السي احمد بن بله ونعرف أن ليس عنده الا كسوة واحدة.. وانا عندي واحد اقتراح (قالها بالفرنسية ووجد من يعربها..) أن نصرف للسي احمد بن بله، الذي بات الآن “بريزيدان” ـ يعني رئيس ـ ثمن كسوتين..” ولقد صوت مجلس النواب الجزائري، الاول في تاريخ البلاد بعد تحريرها، على صرف ثمن كسوتين للسيد رئيس الجمهورية..
بعد يومين قصدت “فيللا جولي” حيث كان يقيم احمد بن بله، بصورة مؤقتة، قبل انتقاله كرئيس إلى “قصر الشعب” القريب… ولقد رحب بي معتذراً عن حالة الفوضى في المبنى الذي كان اشبه بقيادة عسكرية مؤقتة. وبعد وقت قصير دخل علينا رجل نحيل القامة، لامع العنينين، بشعر احمر، وقدمه الينا بن بله قائلاً: المناضل القائد في جيش التحرير الوطني العقيد هواري بومدين.

*****

ستمضي سنوات حافلة بالأحداث الجسام، قبل أن يتيسر لي لقاء احمد بن بله خلال مؤتمر صحافي عقده في باريس، بعد وفاة هواري بومدين الذي خلعه من الرئاسة فتولاها وبعث به إلى السجن حيث امضى فيه سنوات حكم بومدين (18 سنة).. وبعدها استقر بن بله في منزل انيق عند باب لوزان السويسرية، حيث تعددت زياراتي له، وقد غدونا اصدقاء. وهكذا فانه عندما اتى إلى لبنان في زيارته الأولى خص “السفير” بلقاء.. ومع تكرار زياراته إلى بيروت كان يخصنا دائماً بلقاء خاص، بل انه شرفني بحضوره زفاف ابنتي هنادي في شتوره وكان بالغ الرقة فراقصها او رقص لها معبراً عن مشاركتها فرحتها.
دارت بيننا خلال اللقاءات المتكررة محاورات عديدة. كان يتجنب الحديث عن بومدين، وان تناول فترة حبسه الطويلة (14 سنة)، والقيود التي فرضت عليه.. وكيف اخترقتها تلك السيدة النبيلة “زهراء” وداومت على زيارته فصارا صديقين، ثم بعد تحريره ـ بعد وفاة بومدين ـ اصرت على الزواج منه برغم فارق السنين.. وقد عوضا بان تبنيا فتاتين احداهما جزائرية (مهدية) والثانية من اصول افريقية (فاطمة).
في اوائل ايلول 1999 شرفت، باصطحاب هذا الثنائي الجميل بن بله وزهرة من دمشق إلى بيروت، لكي يشارك “الرئيس” في ندوة “السفير” حول الصحافة والعرب والمستقبل…
واستعيد هنا بعض ما كتبته عن تلك الرحلة:
“في السيارة اتيح لي أن أتأمل هذين الصديقين الجميلين، وان اسمع من حوارهما ما لم يكن متاحاً لي خلال زيارتي لهما في “منفاهما” السويسري.
كان يسألني ليشرح لها من بعد المناطق التي نعبرها او نطل عليها خلال الطريق؛ ميسلون، جبل الشيخ، الجولان، بقايا القصر الصيفي لهشام بن عبد الملك، في عنجر.
سألني عن زحلة وهل نمر بها، فانحرفت بالسيارة نحوها بينما هو يتابع شرحه الثقافي عن سهل البقاع وعن زحلة التي صارت في تلك اللحظة “جارة الوادي”، مستحضرة معها أمير الشعراء شوقي وأمير الغناء محمد عبد الوهاب.
قلت: اعرف ان صوتك جميل، وأنك تحفظ لعبد الوهاب بعض أغانيه القديمة وتجيد اداءها.
قال: كانت أغاني عبد الوهاب وأم كلثوم التي تصلنا عبر الاذاعات التي لم تكن قوية كفاية، قبل الثورة ثم في زمنها، كحبل السرة تشدنا إلى أهلنا وعروبتنا.
في المقهى شبه المقفل، وعلى خرير البردوني، وامام تمثال احمد شوقي الذي أقامه اهالي “جارة الوادي” تكريماً لمن جعل مدينتهم عاصمة للعشق وللشعر العربي، انطلق “سي أحمد” يشرح لحبيبة عمره ما غمض عليها من معاني كمثل “الغرق في الليلين شعرك والدجى”، او “جمع الزمان فكان يوم لقاك” او “لثمت كالصبح المنور فاك” الخ.
العاشق أعظم من الرئيس،
الحب أبهى من السلطة،
والحبيبة امرأة قهرت السجن، وضحّت من أجل حبيبها البطل بحريتها، وانحازت إليه هو الذي لا يعرفها في حين كان قد انفض من حوله الاصحاب ورفاق السلاح في ساحات النضال او في المعتقلات وسجون المستعمرين.
في لحظة حميمة، سألها برقة: اردت، بهذه اللفتة نحو جارة الوادي، أن اشركك بما يسعدني.
قالت بنبرة زهو: لقد اشركت نفسي في ما يسعدك او يحزنك منذ زمن طويل. سبع سنوات معك في سجنك. لولا شيء من التحفظ لقلت انني فرضت عليك نفسي، وكان قراراً واعياً، وكانت تلك ارادتي… فأين يمكنك ان تهرب مني وأنا إلى السجن تبعتك، وفيه تزوجتك!

*****

نادر بين الحكام من يستطيع ان يحفظ، مع السلطة، إنسانيته، مشاعره، قدرته على الحب، قدرته على مناغاة طفل وهدهدته حتى ينام ومعابثته حتى تتدفق ضحكاته فتملأ الأفق بهجة.
ترى هل يتبقى للحاكم قدرة على الحلم؟!
ما اغنى هذا الانسان غزير الثقافة، رقيق العاطفة، واسع الأفق، والذي لا يكف عقله عن التفكير، ولا يكف عن تغذيته بكل ما تصل إليه يده من أسباب المعرفة وعلوم العصر.
ولقد عاش احمد بن بله الانسان، مسكوناً بهموم هذه الأمة: اوضاعها المتردية، قدرتها على الصمود، اهليتها في البقاء، جدارتها بأن تسهم في صناعة مصيرها بنفسها وفي أن تقتحم العصر بكفاءتها اضافة إلى حقها.
وهو مثقل بالهواجس: العولمة التي تفرض على الانسان نمطاً حياتياً واحداً حتى ليغدو البشر وكأنهم مستنسخون عن النموذج الاوحد، مشكلات البيئة، ثورة الاتصالات والمواصلات وأثرها على العلاقات الانسانية، مآسي الفقر، في العالم الثالث خصوصاً، والامراض السارية وانصراف الغرب الى معالجة أمراض الاغنياء وتسخير مراكز الابحاث لها، في حين لا يبدو معنياً بموت الملايين من البؤساء بأمراض لا يعنى أحد بتوفير الادوية الشافية منها.
لا يتعب هذا المقاتل الذي تجاوز الثمانين من عمره.
قال ضاحكاً: لا تصدق جواز سفري، انه يذكر انني ولدت في العام 1918، من كان يعنى في تلك الأيام، وسط الجهل والبؤس والاضطهاد، بأن يسجل ابناءه، اظنني من مواليد 1916. أنا، في اي حال، من عمر “جمال”.
يلفظ الكلمة بمزيج من الحب والتقدير العالي. هو المثال. هو الصديق الوفي. هو البطل للأبطال.
نشارف بيروت وهو يقوم بدور الدليل لزهراه.
ويتدفق الحب غزيراً: لكم يحبان لبنان واللبنانيين!
فكرت جدياً، ذات يوم، ان اسكن في لبنان. ابنتنا المهدية لا تحب بلداً بقدر ما تحب لبنان. والله، ثق يا اخي، بأنكم شعب عظيم! أنتم نموذج فذ في حب الحياة، وفي التعامل مع الحياة، في عشق الحرية، وأيضا أنتم القدوة في الصمود وفي المقاومة. ثق، يا اخي، بأنكم اعدتم الاعتبار الى العروبة. هذا شعب ابطال والله.
في اليوم التالي، وبينما احمد بن بله يكرز فعل ايمانه بالعروبة، امام المحتشدين في ندوة “السفير”، كانت السيدة زهرة ضيفة شرف على نخبة من سيدات البقاع اللواتي عززن فيها الايمان بلبنان بتوصيف زوجها الحبيب احمد بن بله!
يقدس الحياة من حُرم ان يعيشها، ولذلك يناضل أكثر من اجل ان تكون في مستوى احلامه.
وهذا الحالم العظيم ما زال يناضل، بفكره وبجهده اليومي، بأسفاره، بمحاضراته، بأحاديثه، بالندوات التي يعقدها او يشارك فيها، لكي يكون للإنسان العربي غد أفضل.
لقد قهر السلطة مرتين، فكاد يكتمل كإنسان،
وقهر السجن مراراً، فكاد يكتمل كمناضل.
احمد بن بله يكاد يكون، في واقعه، أبهى من حلم!
ما أبهى الرجل حلماً… خصوصاً إذا ما زينته “زهرة”.

*****

.. ولقد عاد بن بله الى الجزائر، وعاش فيها كواحد من أبنائها (ولاية تلمسان) حتى حضرته الوفاة بعد حياة حافلة بالجهاد: مقاتلاً، ثم أحد كبار القادة وواحداً من القادة الخمسة الذين اختطفهم الاستعمار الفرنسي من الجو، وسجنهم لمدة خمس سنوات او يزيد حتى نجاح مفاوضات الاستقلال، فافرج عنهم، وعادوا الى الجزائر ليواصلوا جهادهم من اجل دولتها المستقلة.

Exit mobile version