طلال سلمان

عمر مديد عشته بالطول والعرض

هذه الأيام أحتفل، وبمعنى دقيق يحتفل بعض الناس، بذكرى انطلاق أول عقد في عمري. المناسبة قد لا يهتم بها الكثيرون ولكنها بلا شك تهم قليلين. هؤلاء ساقتهم حظوظهم في هذه الدنيا إلى أن تجري في عروقهم قطرات من دمي أو تشابكت أقدارهم في مرحلة أو أخرى مع مرحلة أو أخرى من قدري فعشنا أتأثر ببعض أو كل أحوالهم ويتأثرون ببعض أحوالي أو بكلها.

من متع الأيام لمن هم في مثل عمري ممارسة حريتهم المكتسبة بحكم السن أو بالفرض أو بالمراوغة الذكية والرشيدة. هؤلاء يقضون جانبا من وقتهم، وهو وقت ثمين للغاية، يقارنون أيامهم بعضها بالبعض الآخر. أنا مثلا وقد تقدم بي العمر كثيرا أقضي جانبا من وقتي أقارن باستمتاع بين أيام أعيشها وأيام عشتها وأنا طفل دون العاشرة، أو بين ساعات أعيشها وساعات عشتها وأنا مراهق، أو بين وقت أعيشه وأوقات عشتها وأنا على باب الأربعين أب لمراهقين اثنين وطفلة وزوج لشابة رائعة في جمالها وصبرها وحكمتها ولم تتجاوز الخامسة والثلاثين في اللحظة محل المقارنة. رب عائلة هوايته الأكبر التنقل بين المهن والبلاد والثقافات. أرهقها بقرارات السفر والتنقل والعودة فجأة لمقاعد الدراسة وبعدها السفر من جديد. المصير في عرفه مجهول وفي كل الأحوال لم يكن محل فضوله أو قضية تستحق أن تشغل باله.

أقضي بعض الساعة أقارن بين وقت كنت في الثمانين، وبين وقتي الراهن وقد رحلت في سلام إلى عالم آخر شريكة العمر وتجاوز المراهقان الستين من عمرهما وعبرت الطفلة أو كادت تعبر حاجز منتصف العمر. المصير صار معروفا وإن ظلت تفاصيله وعواقبه لا تثير فضولي ولا تشغل نصيبا معتبرا من بالي.

سلكت في هذه الحياة مسالك شتى وارتكبت أخطاء كثيرة. لم أندم وقتها وغير نادم الآن. أظن أنني عوضت كل تقصير بإنجاز وكل خطأ بتصحيح نتائجه. أنا اخترت هذه المسالك وبإرادتي الحرة. لا أحمل أحدا وزر ما أخطأت. عشت أختار مسالك صعبة، وأصل إلى محطات لم تكن في خطة رحلتي. أكثر مسالكي لم يمش فيها آخرون إلا نادرا. احتار الذين علموني، فالسهل لا أقربه والصعب يجذبني. لم أدع أحدا إلا نادرا ومجبرا يرسم لي خطوط مشاويري وحدودها. إن حدث وسلكت طرقا سهلة وممهدة مشيت فيها متمردا ومعاندا حتى إن ضعت وأضعت. لم أمش مرة واحدة بطريقة غير طريقتي ووصلت آمنا أو سعيدا. حاول معي شيخ معمم كان أستاذا وعلامة، وحاول معي مدرس ماركسي كان يعلمني التاريخ المعاصر، وحاول مدرس للرسم غوايتي لأختار الفن رسما وتمثيلا. كلهم وغيرهم حاولوا وفشلوا. تمسكت بطريقي وطريقتي.

قيل أضعت فرصا. ظنوا مع كل فرصة ضاعت إنني أخطأت. أنا لم أخطئ. هم أخطأوا. أرادوا أن أبدل طريقتي بطرائقهم.. لن أخسر نفسي لأرضي أحدا. هكذا فكرت وأنا في الثانية وعشرين عندما تعرضت لضغوط من رئيس كان سفيرا وكنت ملحقا حديث العهد بالبيروقراطية. كتب لرؤسائه كذبا. نبهته بكل أدب واحترام. عوقبت وتلقيت من الرجل الثاني في السفارة أول درس في وجوب طاعة الرؤساء حتى وإن كذبوا. لا تخلو حكايتي مع الدبلوماسية على امتداد العقد الذي قضيته فيها من نماذج مختلفة لرؤساء ومرؤوسين تعلمت منهم فضائل ومزايا وعشت بينهم بعض أحلى أيامي. إن نسيت فلن أنسى أياما في بكين عشتها مع نزار قباني الزميل الذي أحال بكين، العاصمة الأشد كآبة في ذلك الحين، إلى وظيفة مفيدة. تعلمنا هناك أنه في أي مكان نذهب إليه خارج الصين سوف نجد السعادة وينتهي الملل.

ها أنا وقد اقتربت من نهاية رحلتي، حققت فيها ما حققت وسعيد به. بعض ما حققت أراه في وجوه كثيرة لأفراد جئت بثلاثة منهم وهؤلاء جاؤوا بأحفاد والأحفاد بدورهم أضافوا إلى الشجرة ثمارا وجمالا وطول بقاء. أراه أيضا في سلاسل متصلة وفي الغالب متواصلة من زميلات وزملاء كنت أفخر بزمالتهم والآن أفخر بما حققوه في حياتهم. أظن أنني غرست في عدد منهم حبا للحياة وللحب.

لم أبخل عليهم بحكاياتي. حكيت كيف جربتني الحياة كما جربتها. حكيت كيف علمتني أن أحبها. أخذتني مرارا في رحلات قاسية لأتعرف على معني فقدها، فقد الحياة. في إحدى المرات عرضتني لوابل من رصاص الإسرائيليين خارج غزة ولم أتجاوز السابعة عشرة. وفي المرة التالية ارتطمت بي وعائلتي الصغيرة الطائرة التي كانت تقلنا من هونج كونج مرورا بالهند إلى القاهرة في طريقنا إلى روما، ارتطمت بأرض مجاورة لممر الهبوط واحترقت. وفي مرة ثالثة ودعت زوجتي وطفلينا وعائلة السفارة في روما وسلمت نفسي لمجموعة من الأطباء الإيطاليين ليجربوا في جسمي إجراء عملية جراحية يتخلصون بواسطتها من قرحة في الإثني عشر. الطبيب وكان قسا من قبل احترافه الطب أسر لي بعيدا عن عائلتي ولكن في حضور السفير المصري بأن العملية خطيرة وأنهم يجرونها لأول مرة وبعدها إن نجحت سوف أعيش لفترة قد تطول بمعدة طفل رضيع. وافقت واعترض السفير طالبا مني السفر إلى لندن لعرض الحالة على أطباء يعرفهم شخصيا. إمام إصراري صارح السفير أم زوجتي في الأمر فجزعت وراحت تبحث عن كنيسة لقديسة شهيرة حتى وجدتها في شارع فينيتو بوسط المدينة واختارت جانبا من درج الكنيسة. جلست وفي يدها نسخة من القرآن ومرتدية أفخر ملابسها تمد يدها إلى زوار الكنيسة من مؤمنين وسياح تتسول نقودا عسى أن تتوسط القديسة لدى الرب فأخرج حيا من جراحة خطيرة. عشت أذكر هذه السيدة بكل خير. أذكر لها بكل الحب والعرفان عندما تدخلت لصالحي عند زوجها يوم تقدمت لأطلب يد الآنسة رفيف وكيف نهرته بلطف عندما سألني عن مرتبي وإن كان يكفينا إذا تزوجت ابنته.

جربتني الحياة وجربني الحب معها. عشتها أحب. تعلمت الحب في حضن أمي. رحلت عن دنيانا مبكرا. رحلتها في الحياة كانت كلها رحلة حب. ورثت عنها طريقتها في عدم الإعلان عن حبها. قليلة الكلام كانت. كريمة في تعبيرها الصامت عن حبها، دافئة نظراتها، ناعمة ولكن عميقة لمسات يدها. رحلت مخلفة وراءها ثروة من الحب عشت بعدها أنهل منها حتى اشتد عودي فصرت أنميها وأضيف إليها.

لعلي أفلحت.

ينشر بالتزامن مع جريدة الشروق

 

Exit mobile version