طلال سلمان

على طريق بشار اسد رئيسا

ثلاث سنوات طوال كأنها دهر… وها هو بشار الأسد يبدأ سنته الرابعة في رئاسة الدولة الفقيرة إلا بشعبها، الضعيفة القدرات إلا بموقفها السياسي الذي يكاد يختزل آخر ما تبقى من شعارات »الزمن الجميل« التي تبدو لكثيرين هجينة الآن أو منافية للسائد والرائج والمعتمد: البعث، العربي، الاشتراكي، الوحدة، الحرية، الاشتراكية، الحزب القائد، أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة إلخ..
ما أثقل الحكم! ما أخطر القرار! ما أقسى الخيار بين أن تتعجل تحقيق ما تفترضه ضرورة فتبدو كأنك تنفذ خضوعا لإرادة الخارج، أو تتمهل أو ترجئ علاج ما لا بد من علاجه فيسبقك الزمن وتداهمك التطورات بما لم يكن »معقولا« أو »مقبولا« فتفرض عليك التعديل في برنامجك بالحذف أو بركوب المخاطر.
ما أقسى إعادة النظر في »الثابت« الذي أضفى عليه التقادم والتعود طابع »المقدس« بحيث لا يجوز لأحد أن يتصرف به أو يقاربه بوصفه »متحولا« وإلا اتهم في »ولائه« إن لم يكن في »عقيدته«.
هو الآن الرئيس الدكتور بشار الأسد.
الفخر بحافظ الأسد محفور في الوجدان، والاعتزاز بتجربته الغنية يملأ الجوانح، والاتكاء على تراثه من الإنجاز والصداقات والاحترام للنفس أخطر الأسلحة في مواجهة الصعب.
لكن بشار الأسد رئيس مختلف لمرحلة مختلفة، لا هو تكرار للوالد ولا هو مجرد استمرار… والتجربة لا تنتقل آليا بالإرث، والتميز ضرورة بغير أن يبدو كأنه انتقال إلى النقيض، أو »تمرد« لإثبات الذات.
أكثر من أي رئيس آخر كان على الدكتور بشار الأسد أن يكتسب بكفاءته الشخصية شرعية سياسية مستقلة عن شرعية أبيه الراحل الكبير.
وكان على هذا الطبيب الشاب، الذي حرفت المقادير المسار الذي اختاره لمستقبله، أن يؤكد أهليته للدور الجديد الذي فرض عليه فرضا؛ أن يكون مكملا لما بدأه أبوه الرئيس، وأن يكون مجددا وبالتالي مختلفا عن أبيه الرئيس.
كان عليه أن ينتصر في صراع مفتوح مع الذات لكي يميز نفسه فيخرج من دائرة »الظل العالي« من دون أن يتوهم الآخرون أنه سيهدم الهيكل بذريعة تجديده.
لقد وصل إلى الرئاسة لأنه أساسا ابن حافظ الأسد، ولكن عليه شخصيا أن يكون رئيسا بشخصه لا بوهج أبيه الذي قد يحرقه إن هو لم يميز نفسه عنه بإثبات كفاءته هو وجدارته هو بالمنصب الخطير، وحتى لا يبدو كأنه يحكم باسم »الماضي« أو نيابة عنه أو لمجرد كونه وريثه.
كذلك فهو قد وصل إلى الرئاسة لأنه ابن شرعي للنظام القائم منذ ثلاثين عاما أو يزيد، ولكن كان عليه أن ينجح في امتحان خطير آخر: إنه جيل جديد، له ثقافته المختلفة، ثم إنه ابن عصره الذي غادرته التوازنات السابقة بين المحاور التي اندثرت مخلية الساحة لقطب أعظم وأوحد يعطي لنفسه من صفات الخالق ما شاء!
لكم تبدو سنة 1970 وحقبتها بعيدة! لكأنها تقع في عصر سحيق لم يعد له من أثر إلا في كتب التاريخ… فليس للاتحاد السوفياتي ومعسكره الاشتراكي وجود! والشيوعية صارت من الذكريات! أما الاشتراكية فقد لحق بها عبر تجارب الحكام الذين رفعوا شعارها الكثير من التشوه، ولقد صارت لها »موديلات« فرنسية وألمانية وإيطالية وبريطانية، لكن المشترك بينها جميعا قدر من الرأسمالية الحديثة، أو الامبريالية الجديدة »ألا أميركانا«.
… وهذه الامبريالية بالصيغة الأميركية قد حققت من الانتصارات السياسية والاقتصادية والعلمية وحتى الثقافية، ما أسقط عنها الكثير من بشاعات الاستعمار القديم، وجعلها بالمقارنة مع العديد من الأنظمة الدكتاتورية التي تدعي معاداتها قادرة على دغدغة مشاعر الشعوب بشعارات الديموقراطية وحقوق الإنسان والحرية الاقتصادية، ثم بالتقدم المذهل الذي حققته في مجتمعها ولمجتمعها… هذا قبل أن نصل إلى نجاحها في اجتذاب الشباب المعادي فكريا، بالموسيقى والملابس والمآكل السريعة والإعلام السحري وهوليوود مدينة العجائب!
***
الرصيد الموروث عظيم القيمة، لكن الحمل ثقيل الوطأة..
والماضي، حتى وإن كان غنيا بدروسه ومردوده المعنوي، قد يتحول إلى معطل أو معرقل أو مضاعف لأعباء المواجهة مع مهمات الغد، وما أكثرها عددا وما أصعبها نوعا!
هو ابن حافظ الأسد. لكنه ليس هو.
وهو ابن شرعي لنظام حافظ الأسد. لكن من حقه ان يجعل نظامه يشبهه فتوة وانفتاحاً على الآخرين. فمن كانوا »حلفاء« الأب ليسوا موجودين اليوم.
ومن كان »خصمهم« لاسباب عقائدية انتفت الخصومة باندثار العقائد.
وأما ميزات الاب العظيم في حسن قراءة التحولات والتكيف مع المتغيرات من دون مغادرة »الثوابت« الوطنية والقومية، فهي عدة المواجهة الناجحة دائماً.
وبشار الأسد لا يريد ولا يكفيه ولا يُقبل منه ان يكون ابن الأمس، وتجربته ولو ناجحة.
عليه ان يكون رجل الغد ايضا.
لقد كانت السنوات الاخيرة من عمر الاب مراوحة ممضة عند حدود تسوية لم يقدر على رفضها تماماً، لان الرفض يعني العزلة، ومن ثم يعني حرباً لا يمتلك اسباب كسبها خصوصاً بعد ان خرج »رفاق السلاح« من الميدان، وهكذا فقد كان عليه ان يحرج الطرف الخصم حتى يضطره الى اعلان رفضه للتسوية.
لقد تساقطت »دول الطوق«، حتى كاد يتحول الى اسير منفرد في قلب »الطوق« العربي للعدو الاسرائيلي.
ها هو الاحتلال الاميركي »جاره« في العراق الذي سقط تحت وطأة حاكمه الطاغية فلم يقدر على مواجهة الغزو العسكري الذي تم من خارج الشرعية الدولية، بل وبالخروج العلني عليها… وكانت فضيحة السقوط في الداخل اعظم ضررا من فضيحة العجز عن المقاومة: اذ ثبت ان الدكتاتور قد اغتال الحزب والدولة بجيشها وشعبها، وتقدمت الدبابات على حطام الشعارات البرّاقة والادعاءات الفارغة والهياكل القائمة بموازاة التماثيل ومثلها تماماً، لا حياة فيها ولا نفع منها، لا هي »تخدم« الاهل ولا هي تخيف الاعداء!
وها هم العرب يفرنقعون، فلا تعقد لهم قمة إلا بمعجزة، ولا تنتهي إلا بمشكلة تزيدهم فرقة وتباعدا وتخلياً عن واجباتهم القومية وأولها فلسطين التي يكاد ينكرها اهلها العرب تاركين شعبها ومصيرها لعدوها الاسرائيلي يقرره في هدي خريطة الطريق الاميركية التي اعدها صهاينة واشنطن ولم يقبلها بعد السفاح شارون.
***
فأما الداخل السوري فحديثه يطول: لقد أرجئت العناية بمشكلاته اكثر مما يجب، حتى صارت عملية الانقاذ المطلوبة اشبه بإعادة بناء شاملة.
وآن أن تواجه المسائل في عينيها: بدءا بدور الحزب الذي أرهقته السلطة فأضعفته وأضعفها وشغلته باليوم عن الإعداد لمهمات الغد الثقيلة، وأولها الاقتصاد الذي تاه طويلا بين اشتراكية مدعاة أنجبت مخلوقا عجائبي الضخامة اسمه »القطاع العام«، وبين محاولات مجتزأة للإصلاح كانت تقف بالتغيير عند حافة الاحتمال، فلا يعرف الناس حدود المحظور والمتاح في معمعة الصراع بين الرغبة والقدرة، بين التقليد والتجديد، بين ادعاء قدسية مطلقة للماضي، أو ترويج لمنطق الالتحاق بالعالم الجديد »حتى لا يتركنا خلفه، أو يتقدم فيسحقنا«.
إنها السنة الرابعة. ما أسرع الزمن إن ظل بلا زمام من القرار.
بشار الأسد رئيسا: لك القرار، ومنك ينتظر الجميع القرار في سوريا التي تكاد اليوم تختصر كل العرب، أو كل من تبقى منهم، ولبنان ظهير ممتاز إذا أحسنت الإفادة من إمكاناته ومن طاقته الفكرية الخلاقة.

Exit mobile version