طلال سلمان

على الطريق نطلق حركة تصحيح للعروبة بدلاً من أن نهرب إلى العدو!

… وبين “خلده” اللبنانية و”الخالصة” التي صارت – بالقهر – “كريات شمونه” مسافة طويلة تصل إلى أربعين سنة وتكفي لمراجعة شاملة وواعية للذات ولما حولنا، وتكفي أيضاً لاستكشاف معالم الطريق إلى غدنا، ومحاولة استشفاف ملامح ذلك الغد وحماية ما يتسق منها مع أحلامنا وطموحاتنا المشروعة.
إننا على أبواب مرحلة جديدة،
وبرغم إن واقعنا الراهن مخيف برياح القنوط واليأس وخيبة الأمل التي تهب عليه من كل ناحية، فليس من حقنا أن نسفح مستقبل أجيالنا الآتية تحت ضغط الحنق أو المرارة أو التعجل لننفض اليد من أعباء ما نحن فيه والمسؤوليات التي لن يحملها – بالنتيجة – غيرنا.
وثمة فارق كبير بين ما خسرناه بقوة الاحتلال وما قد نخسره بضعف المواجهة، مواجهة المحتل ذاته ونتائج الاحتلال على الأرض والناس، والناس على وجه الخصوص.
وأخطر النتائج إطلاقاً أن نستسلم لواقع الهزيمة وأن نسحق ما تبقى في نفوسنا من معاني العزة والكرامة والحق المطلق في تقرير مصير الوطن وشؤون أبنائه،
لقد كشف الاحتلال الإسرائيلي إن قضية لبنان، بواقعه السياسي والجغرافي، لم تعد موضع نقاش على الصعيد العربي،
إن وجود لبنان، وحدوده، موضع نقاش بالنسبة للعدو الإسرائيلي ليس إلا.
وهذا يلغي نهائياً ما كان يخوف به اللبناني، والمسيحي خاصة، من أن العروبة تعني ذوبانه (واندثاره أو انقراضه) في أكثرية إسلامية متخلفة وعمياء بالتعصب ومشبعة بروح “سياسة أهل الذمة”
إن الخطر الداهم والماثل الآن هو تذويب لبنان، كله أو بعضه، في كيان الدولة اليهودية، أو تقزيمه، وإلغاؤه سياسياً بجعله محمية إسرائيلية مباشرة أو عبر تمزيقه إلى إقطاعات وكانتونات طائفية تستمد من إسرائيل سبب الوجود والبقاء وتعمل في خدمتها فتضرب الآخرين بسيفها أو تكون “وسادات” وحراسات مسلحة لمصالحها ولمطامعها الإقليمية، تحصنها وتحميها ضد الواقع التاريخي والجغرافي والثقافي للبنان ومنطقته العربية.
فالتطبيع، بأية تسمية جاء، لن يكون مجرد سلخ للبنان عن هويته ومحيطه، بل سيكون إعادة صياغة لبنان بما يمكنه من أن يتحول قاعدة عسكرية – سياسية – اقتصادية ضد كل ما له علاقة بهويته الأصلية ومحيطه العربي،
وليس ثمة ما هو أكثر تزويراً من ادعاء الالتجاء إلى إسرائيل بحجة البحث عن حماية أو ضمانة للأقليات في مواجهة خطر العرب والعروبة.
فالواقع الراهن، إضافة إلى التاريخ، يشهد بأن العروبة، والعروبة وحدها، هي التي كانت الضمان للأقليات، بما في ذلك الأقلية اليهودية التي كانت تعيش في مختلف الأقطار العربية والتي نزحت إلى إسرائيل بدافع التعصب الأعمى وليس هرباً من اضطهاد الأكثرية (ولبنان بالذات يقدم دليل النفي الذي لا يقبل تزييفاً أو دحضاً في هذا المجال).
وبرغم كل ما جرى في سنوات التغيير والتجارب المريرة التي عشناها مؤخراً، لم تفقد العروبة أبداً نقاء حقيقتها بوصفها الضمان الأهم والأقوى والأبقى للأقليات.
لقد تراجعت فكرة العروبة في ظل سيادة أنظمة دكتاتورية تدعي الانتساب إليها ولا تمارسها حقيقة، وفي ظل بروز الكيانات والعصبيات الإقليمية والطائفية، وأدى ذلك كله إلى اهتزاز ثقة الأقليات بمحيطها فاندفعت تبحث عن ضمان لأمنها ومصالحها لدى الأميركيين مرة، ولدى العدو الإسرائيلي مرة أخرى، خصوصاً وإن عصبيته العنصرية ترتكز على واقع أقلوي بالمعاني جميعاً.
والحقيقة إن اهتزام الثقة كان شاملاً، فليست الأكثرية بأحسن حالاً، وما الأزمة الثقافية – الفكرية – السياسية التي تعيشها أجيال النكبة والنكسات إلا إعلان صارخ عن التأثير الفادح (بل والمدمر أحياناً) لانعكاس فشل القيادات – أنظمة وأحزاباً ومنظمات – على فكرة العروبة وارتباط الناس بها قناعة وإيماناً ويقيناً وطريقاً إلى الغد الأفضل.
ولكن يبقى أن البديل “الواقعي” للعروبة هو إسرائيل والارتباط بالأجنبي وليس الوطنية بأي معنى وبأي شكل من أشكالها،
وأغلب الظن أنه ليس ثمة من يدعي أنه يستورد وطنية طازجة من واشنطن، أو يتباهى بوطنية مزيلة بتوقيع بيغن أو شارون.
من هنا إن لبنان، وبرغم كل ما فيه وكل ما يعاني منه، بل ربما بسبب من ذلك كله، هو المهيأ الآن لاطلاق حركة تصحيح للعروبة، وهو المهيأ لإعادة الاعتبار إلى هذه العقيدة السامية التي كان لأبنائه شرف المساهمة في إطلاقها والاستشهاد من أجلها.
إن لبنان مهيأ لأن يطلق العروبة من جديد، وبمفهوم أنضجته التجربة المرة وصهرته أهوال المواجهة مع الذات ومع القريب ثم مع العدو العدو.
لبنان هو المهيأ لأن يطلق عروبة بريئة من خطايا الأنظمة وأخطائها، مميزة عن الأديان بغير أن تكون خارجة عليها، سامية على الطوائف والمذهبيات والعصبيات جميعاً،
لبنان هو المهيأ، والمطالب مرة أخرى، بأن يطلق حركة عربية تؤكد – كما في الماضي – إن هذه المنطقة ليست غرباً أو من الغرب، وليست “عثمانية” أو ولايات للسلطان “المسلم” ولكنها لأبنائها بأديانهم وطوائفهم جميعاً، وأساساً بولائهم لأرضهم وتاريخهم العريق.
إن لبنان الخارج من محنة عانى فيها ما عاناه من أخطاء الأنظمة العربية ومن جرائم الاحتلال الإسرائيلي، هو المهيأ لأن يعيد إطلاق الدعوة العربية، بما هي دعوة لبناء الحلم، لبناء المستقبل.
لقد سقطت الطائفيات جميعاً بعدما كادت تسقط الوطن.
لم تنفع طائفية “المسلم” في حمايته (وحماية لبنان) من أخطاء الأنظمة العربية، ولا نفعت طائفية “المسيحي” في حمايته (وحماية لبنان) من فظائع الاجتياح . فالاحتلال الإسرائيلي ووضع مصيره في مهب الريح (مع الإشارة إلى أن المحتل الإسرائيلي قد حاول وما زال يحاول إلصاق أبشع الفظائع التي ارتكبتها قواته بالميليشيات المسيحية).
إن الوطن في خطر، لأننا جميعاً مرضى،
فلننقذ الوطن بأن نحمي ما تبقى منه، ولننطلق مما بين أيدينا لنبني ما يصلح لأن يكون أساساً لغد أفضل ولو بعد أعوام وأعوام وليس بالتنازلات والتراجعات والتفريط يكون ذلك الغد العتيد.
وتوكيد العروبة والانتماء القومي هو المدخل، وليس التنصل من واقعنا ومن وجوهنا السمراء وأسمائنا غير القابلة للفرنجة.
وبين وسائل توكيد العروبة فصلها عن الأنظمة، والعاطي معها من داخل وليس من خارج،
فليست مهمة العروبة في لبنان أن تبرر أخطاء الأنظمة العربية وخطاياها، بل مهمتها كشف مدى ابتعاد هذه الأنظمة أو قربها من العروبة، فكرة وعقيدة… من دون أن يعني ذلك أن نتحول إلى مكتب لتوزيع الشهادات على الآخرين.
فلبنان في موقع الضمير وله مهمته، لأن كل خطأ عربي ينعكس على هذا البلد، – المرآة أوضح وأقسى مما ينعكس على أخوتنا في سائر الأقطار العربية،
وليس بحجة التخاصم مع الأنظمة أو الاختلاف معها نخرج من العروبة متجهين رأساً إلى إسرائيل،
… وإلا كنا نساعد العدو على الاندفاع من “خلده” إلى أمام، ولا نساعد أبداً على إرجاعه إلى خلف، إلى “الخالصة” التي صارت – بالقهر – كريات شمونه، تمهيداً ليوم نقوى فيه على القهر والقاهرين… سواء أكانوا في الداخل أو خارج الحدود.

Exit mobile version