بالدم الغالي المهدور في طرابلس سنكتب عن دير قانون النهر وعن خطر “الاتفاق” على مستقبل لبنان ووجوده.
ونيابة عن الذين اغتيلوا غدراً من أبناء الفيحاء والشمال الحبيب سنكتب عن الذين تحاصرهم قوات الاحتلال الإسرائيلي حتى الموت قهراً أو جوعاً، لأننا نعرف كم هو عميق ومضن ألم أخوتنا الشماليين كونهم معزولين وممنوعين من مشاركة أخوانهم الجنوبيين والجبليين والبقاعيين (حتى لا ننسى القرعون وسحمر وكامد اللوز وراشيا الخ) شرط النضال الحق في الزمان الصحيح والمكان الصحيح!
ولأن الجميع يعرفون إن تمزيق لبنان الصغير إلى “جهات” و”مناطق” ، ومحاصرة كل مدينة وكل قرية وكل دسكرة وكل حي في مدينة (إن لم نقل كل مواطن على حدة) بهموم “خاصة” متميزة – في المصدر والمسبب والسبب – عن هموم الآخرين، إنما هي بعض فصول المؤامرة لتفتيت لبنان وإلغائه كمشروع وطن وتمزيق شعبه ونثره طوابير من اللاجئين والمهجرين والمهاجرين الهاربين إلى حيث يتوافر الأمن والأمان ولو في قاع الدنيا…
على رغم الجرح الجديد – القديم الذي أعيد فتحه لإغراق طرابلس والشمال في مستنقع الدم، بما يستنزف المزيد من إمكانات الصمود في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، و”الاتفاق” بوصفه أخطر نتائجه، يظل من واجب اللبنانيين عموماً، والأعظم وعياً بينهم خاصة، أن يثبتوا أبصارهم على “العدو” فلا تزوغ عنه، وعلى الطريق إلى الهدف فلا يطيش الرصاص والجهد وتزل بنا أقدامنا فتقودنا إلى الطامة الكبرى.
مقدر علينا الشهادة وحس الاستشهاد، أمواتاً وأحياء!
مقدر علينا أن نتنفس الألم والشقاء والمعاناة اليومية المريرة، وأن نكتم صرخة الوجع حتى لا تولد فينا حقداً غير الحقد المقدس الذي يفترض أن ندخره – مع الرصاص – لعدونا الواحد والأوحد والوحيد!!
مقدر علينا أن نكون قديسين وأنبياء، برغم إن كل ما ومن حولنا يدفعنا لكي نكون وحوشاً، نفترس بعضنا البعض.
لقد سمموا علينا الهواء والماء ونورالشمس وأغرانا السلاح المفصول عن القضية والمعطل عن خدمة هدف التحرير بالقتل والاقتتال بدلاً من القتال حيث الميدان ولا أرحب لمن أراد القتال، وحيث الهدف ولا أسهل لمن أراد أن يراه وأن يقاتله ويقتله ليستنقذ شرف الوطن ومصير الأمة.
ومن حقنا أن نصرخ بمن يرفع السلاح في المكان الخطأ وفي الزمان الخطأ وضد القضية: تفضلوا فالعدو يتمدد بكل ثقله فوقنا – بلداً وشعباً وطموحات – ، وتتحرك أرتال آلياته وجنده فوق مساحات ولا أوسع وفي مناطق مثالية لحرب التحرير، وإلا فاسمحوا برمي سلاحكم حتى لا يقتلنا جميعاً.
مقدر على الأكثر وطنية أن يؤكد، من جديد، وطنيته: على أبناء طرابلس وزغرتا وسبعل والكورة والضنية والمنية وعكار وبشري أن يثبتوا أنهم أكبر وأشرف من أن يتركوا تراث النضال والصمود الوطني إلى حماة الجريمة،
وعلى أبناء الجبل أن يثبتوا تعلقهم بلبنان!!
وعلى أبناء الجنوب والبقاع أن يثبتوا إنهم أقوى وأعظم وأكرم من أن يخضعوا لقهر الاحتلال، وأن يستكينوا لغطرسة جنوده ولضروب الاذلال التي يتعرضون لها.
وعلى هؤلاء جميعاً أن يثبتوا – بدمائهم – قدرتهم على تبديل المناخ الفاسد الذي يمنع قيام الوطن وانطلاق الأمة نحو غدها الأفضل!
مقدر علينا بعد أن ندفع مزيداً من ضريبة الدم لننقذ الآخرين.
فذلك هو المخرج الصحيح (والوحيد؟) من العصر الإسرائيلي الذي يتهدد الوطن الكبير: من باب المندب إلى رباط الفتح!!
فالخلاص كما الانهيار: يبدأ بلبنان ثم يعم الدنيا كلها من حوله.
والمطلوب، فقط، أن يسمح لنا بتوظيف الدم من أجل الخلاص، بدلاً من هدره مع … الأمل بأي خلاص!
هل ثمة بعد من يسمع وسط دوي الرصاص، كلمات “وعظ” خرساء كهذه؟!
وهل ثمة من يسمع بداية، في بيروت وما حولها فيستطيع أن يقدم نجدة ما – ولو بالكلمات – للمقتولين في طرابلس وللمحاصرين في الجنوب والجبل وبعض البقاع؟!
وهل ثمة من يقرأ العربية بعد، ويفهمها … غير الضحايا؟!
وماذا إذا تلاقى الضحايا؟!
وهل ضروري أن نهتف: يا ضحايا القتل والحصار والاضطهاد والغبن والاحتلال اتحدوا!!
وسلاماً على الضحايا في أربع أنحاء لبنان، بل وفي أربع رياح الأرض العربية.