طلال سلمان

على الطريق مدينة على الصليب!

الإنسان يبني البيت ثم يدخله فيبني نفسه فيه،
وجيلاً بعد جيل يصبح البيت إنساناً كبيراً، لأنه يأخذ من مجموع من قطنه ويعطيهم فإذا هم وهو واحد قوي، صامد، باق وشاهد على استمرار نهر الحياة بالتدفق وبالتجدد الدائم،
وكما الشجرة تندفع الجذور أعمق فأعمق في الأرض، بينما تنطلق الفروع أعلى وأعلى في الفضاء، وتتسع الدائرة الظليلة المضمخة بأنفاس البشر الندية وذكرياتهم التي ولا أغلى وصدى ضحكات الأطفال.
ويغدو البيت وطناً.
في القنيطرة لم نر بيوتاً مهدمة أو منسوفة.
رأينا مدينة مصلوبة والمسامير في جنوبها بعد، واكليل الشوك الأزرق لما يزل يطوق الهامة الشامخة.
وبالرغم من الجراح النازفة، كانت الحجارة تبتسم.
وكانت ابتسامتها تشق كالسكين محاجر الرعب والفزع والاستغراب التي كانتها عويننا: ماذا؟ أكنتم تتوقعون شيئاً آخر أيها الغررة؟!
الحقيقة أمامنا، تنداح عارية: بالمئذنة المقطوعة الرأس، والكنيسة المثقوبة القباب، والسقوف المنزرعة في التراب، والنوافذ المعلقة في الفراغ، والمقابر المحروثة بالبلدوزرات والدبابات.
.. ونحن نهرب منها إلى الأوهام الإنسانية فينا، إلى التراث الحضاري في نفوسنا، وأيضاً إلى الجبن: فما دمنا نفترض أن أحداً لا يمكن أن يقترف جريمة كهذه فلسنا ملزمين بالاستعداد لمواجهته!
الحقيقة تنتصب كالسيف، أمامنا مباشرة، تسد علينا الطريق.
ونحن نلوذ بأكذوبة السلام الآتي من واشنطن، وفي إذاعاتنا وصحفنا بحور من الكلام الطلي عن نعم عصر الانفتاح، وعن النتائج المذهبة لفك الارتباط.
الحقيقة كعادتها أبداً: بسيطة، بسيطة، بسيطة.
ونحن نلجأ إلى التعقيد علناً نتمكن من إخفائها بين طياته.
لكنها تداهمنا، تقتحمنا، تملأ علينا نفوسنا والأفق لتقول جملة وحيدة بلسان محمود درويش:
هذا هو السلام الإسرائيلي.
وفوق التلال الثلاث ترفرف فوق حصون العدو الباقية لتعلن بوضوح: إن إسرائيل تقبل العرب في إحدى صورتين: قرية مدمرة أو مستعمرة.
إن إسرائيل فتلت البيوت، نحرتها نحراً، أعدمتها رمياً بالرصاص حتى السقوط، نسفتها، ذبحتها من الوريد إلى الوريد حتى تهاوت السقوف…
لكن أنفاس الناس وذكرياتهم وضحكات الأطفال، ظلت تزعج القتلة فعادوا ينتقمون من الحجر والشجر والإسمنت والنوافذ وكل ما له صلة بالإنسان.
لم يكن في البيوت أحد.
لم يكن فيها “مخربون”.
لكنهم قتلوها لأنهم أعداء البيوت والعمران والخضرة والزهر بقدر ما هم أعداء البشر، فلاحين كانوا أو جنوداً أو شيوخاً عجزة أو أطفالاً، شركساً كانوا أم عرباً، دروزاً أو مسيحيين أو مسلمين.
فالعداء بينهم وبين الحياة ذاتها، حياة الآخرين.
وغادرنا القنيطرة.
كانت البيوت المنسوفة، المهدمة، المذبوحة، القتيل المطروحة أرضاً تشد قامتها إلى فوق، إلى فوق، وكنا نحن نطاطئ رؤوسنا خجلاً من جهلنا ومن جبننا ومن فذلكات السياسة!
وكان فوق صدر كل بيت مجموع الأوسمة التي نالها في المعركة.
ففي القنيطرة قاتلت البيوت بصلابة لا مثيل لها عدوها السفاح.
أليس البيت إنساناً كبيراً؟
أليس البيت هو الاوطن؟
وستبقى القنيطرة، كما السويس والإسماعيلية وبور سعيد وقرى جنوب لبنان، على الصليب تنتظر من يثأر لها، من يقاتل معها من أجل عودة الحياة إلى الأرض الأسيرة بعد، في فلسطين وعلى الطريق إليها.

Exit mobile version