طلال سلمان

على الطريق كلمات مقطعة…

بدل أن نعتذر عن عدم الكتابة، بل وعدم الصدور، وكلاهما مبرر وله أسبابه العملية المفهومة والمقبولة، قررنا أن نصدر وأن تكون كلمتنا الأولى اعتذاراً عن عدم الاستسلام للموت قتلاً أو صمتاً أو انهياراً تحت وطأة الأسئلة الثقيلة التي سدت علينا المنافذ وجنبات العقل بأكثر مما سدتها أهوال القصف والنسف والعسف والخطف على هوية المذهب أو مسقط الرأس الكريم!
والحقيقة إننا تعبنا من مناقشة مبدأ الصدور، اليوم، (وغداً؟!) فاندفعنا إليه أخيراً بقوة الاندفاع والتعود وعشق الاحتراق، كفراشة الضوء، وخشية من أن نتهم بأننا غبنا من “أجلهم” أو خوفاً “منهم” أو لأننا “مثلهم” وتلك ثالثة الأثافي.
في أي حال نعترف بأنهم حاصرونا حتى حصرونا في وضع نكاد معه نخجل من مهنتنا، فنحن كوسيلة أعلام مطالبون بأن نخبر الناس ونحدثهم عما كان وعما سيكون، بأن نوصل إليهم الوقائع وصورة الأحداث كما نراها بعيوننا وبعقولنا وبأحاسيسنا.
وهم قد عطلونا عطلوا قدرتنا على الحركة، وعطلوا قدرتنا على الرؤية، وعطلوا بالتالي عقولنا وقدرتنا على الفهم،
ولسنا نملك، الآن ، غير سيل عرم من الأسئلة يضيف إلى هموم الناس المزيد من الهموم، وإلى قلقهم المزيد من أسباب القلق.
فنحن – مثلكم – لا نعرف الحقيقة.. وما نفترض إننا نعرفه منها أقل مما ينبغي لكي نعتمده أساساً للتحليل، ويمنعنا خوف الغلط من أن نتورط في تبنيه وتعميمه.
ثم إننا غير مستعدين لأن نكون شهود زور، نزيف الوقائع أو نحورها، أو نجمل قبحها، أو نتغاضى عن مدى البشاعة التي كادت تلتهمنا والمدينة والبلاد على امتداد الأيام الثلاثة الماضية، ونقفز من فوق ركام حطام الناس بعواطفهم وطموحاتهم وآمالهم وأمانينهم، لنقول إن التحالف بخير وثابت وباق، وإن “المؤامرة” مرت من هنا.. ولن تعود!
على شرفة الجيران أصص زهر، في واحد منها تفتحت وردة، وردة واحدة، تختزل الجمال والروعة، تلغي حيطان الإسمنت، تخترق السقف، وتتطاول بعنقها الطويل لتطل على الدنيا وتبثها عطرها..
طلقات الرصاص، زمجرة الصواريخ، دوي الانفجارات، دخان الحرائق، مزق المدينة تتناثر.
والوردة تظل ترش عطرها ولا تتعب، وتظل واثقة من النصر.
نحن نعرف إن الناس يعرفون مثل ما نعرف أو يزيد، وإنهم أقوى (وأبقى) من القادة والقيادات جميعاً، وإنهم أذكى وأكثر حساسية تجاه الصلح والغلط: يفرزون الكذب عن الصدق، ويصلون ببساطة إلى الحقيقة التي لا يجرؤ أولئك على قولها وإعلانها والالتزام بموجباتها الجليلة والصعبة.
لا شيء يخفى على المواطن العادي، إن عالمه مفتوح، وفكره أيضاً، على عكس ما يفترض أولئك الذين “يصنعون” التاريخ!
إنه يسمع فيبتسم ، أو يهز رأسه، أو يمط شفتيه، بل إنه قد يتظاهر بالتصديق، لكنه يظل حريصاً على أن يحتفظ بمسافة كافية بينه وبينهم… هذه المسافة لا تفتأ تتسع، وهي قد استطالت وتمددت حتى باتت صحراء شاسعة خلال الأيام الأخيرة، حتى بات صوتهم يصله – إذا ما وصل – مضطرباً مشوشاً، أما صوته هو فلم يعد يصلهم أبداً.
على شرفة الجيران حسون وكناري، والف ارغن ورباب وناي،
لعل الورد لا يشق أكمامه ولا يتفجر عبيراً إلا إذا هزه الحنين، وشوق عشاق الحياة إلى الحياة،
بين قذيفتين كانا يستأنفان التناغي، وكانت كرجات الآه الموشحة بشيء من الخوف تنطلق لتطمئن الخائفين إلى أن الأفق يتسع بعد لنغمة حب ولثغة طفل يحاول بقلبه أن يقول “ماما”.
.. وصحيح إن أعماق المواطن العادي مترعة بالحزن، لكن عقله ما يزال يعمل فيرهقه ألذ الإرهاق.
صحيح إنه لا يقول، وقد لا يعرف كل شيء، ولكنه يستطيع أن يقدر وان يفهم أن مستنقع الحروب الأهلية المتعددة الأوصاف والأصناف والتسميات والشعارات، لا يعطي غير المآسي والآلام والضياع وافتقاد الطريق ورفاق العمر و… القضية والأبطال الموعودين.
صحيح إنه رأى بالعين المجردة ، الفارق الهائل بين ما جرى في “الشرقية” وما جرى في “الغربية” خلال اليومين الماضيين، لكنه – ما – ربط بينهما ورأى فيهما وجهين لصورة واحدة، أو طريقين إلى هدف واحد هو : الخروج من “الاتفاق الثلاثي” والخروج عليه، والخروج على دمشق التي رعته، وخلق الظرف المانع لأي اتفاق فيها، وربما لأي اتفاق يشكل مدخلاً إلى حل من أي نوع للمسألة اللبنانية.
وكان بين ما سمعه في “المهرجان الصادر” لحزب الكتائب، هناك، ما يكمل رؤيته لما يحصل من بشاعات حوله هنا.
فالطائفية تفح هناك، وتفح هنا، والمذهبية تذر بقرنها، حتى لا يبقى أحد أو شيء على قدر من السلامة؟
هناك تتهدج أصوات “المنتفضين” على الحزب المتكلس وعلى قيادته العاجزة، وهم يتحدثون عن حزبهم وكأنه من الطائفية والطائفيين براء، في حين أنه – بتاريخه ونهجه ومستقبله – الثمرة المباشرة الأولى للطائفية وللنظام الطائفي وأحد أسباب استمرارهما وتفاقم مخاطرهما وانتقال العدوى إلى كل بيت، ويصفونه بأنه بات أقوى من الأحزاب وفوقها، يصارع الدول وتصارعه ، ثم يختمون ببشارة: إنهم هم هم سيصنعون النظام الجديد للبنان المستقبل!
وهنا، يكادون يطلبون “قوات فصل” لتلجم غرائز المذهبيين وأحقادهم التي تكاد تدمر ما تبقى من العباد والبلاد، ثم يلتفتون إلينا مؤكدين أنهم لن يستريحوا حتى التدمير الكلي، لهذا النظام الطائفي الفاسد والمفسد.
… والشمس أكبر وأبهى وأروع وأنصع من أن يغرقها القتلة، في المستنقع الآسن،
ثم إنها تحرق أيدي “الشبيحة” الذين يحاولون كل يوم سرقتها أو إطفاءها أو إخفاءها عن الناس أو تغييبها حتى لا تفضحهم وتكشفهم للناس..
ثم إنها تشرق بعد كل غروب، وتعطي الناس نوراً جديداً ليوم جديد، وتعطي الحياة دفقاً جديداً ينصرها على الظلام ووحوش الظلام.
وأخيراً فإن الناس – أنتم – الأبقى – هم الأرض وملحها، الوردة وعطرها، الشمس وضياؤها، الشجرة والثمر، هم البداية والنهاية وما تبقى سراب وزبد وقبض ريح، يتعمشق على أعمدة الصحف يوماً، شهراً، سنة، ثم يجيء من يسقطه ليأخذ مكانه ويسابقه وقد يسبقه إلى حيث انتهى السابقون.
المهم أن نحمي الحياة،
المهم أن نحمي عقولنا، حتى لو عجزنا مؤقتاً عن الاجابة على الأسئلة المتوالدة كالفطر في كل لحظة،
المهم أن نحمي قدرتنا على حماية الغد من الذين يحاولون اغتياله،
وأول شروط الحماية أن نبقى، وأن نحفظ مع عقولنا أصص الورد والحسون والكروان الذي لم يمنعه الروع من أن يظل يذكرنا بأننا نستحق الحياة ونستحق ما نتحمل من أجل وطن حقيقي لأجيالنا الآتية.

Exit mobile version