طلال سلمان

على الطريق قمة الأسد في الإسكندرية

تكتسب قمة الإسكندرية أهميتها من “رمزيتها”: إنها محاولة جديدة وجادة ودقيقة التوقيت لوضع تخم للتدهور في الموقف العربي… محاولة لتحديد “القاع” الذي لا يجوز لأحد أن ينزل تحته، مهما كانت الذرائع والمبررات.
لم يعد أحد يتطلع إلى فوق، والخوف أن يشد التيار المزيد من “المبهورين” إلى اللجة، تحت.
إلى ما قبل سنة كانت معاهدة كامب ديفيد هي ذلك “الدرك الأسفل” الذي لا “تحت” بعده.
لكنها اليوم باتت مرتفعاً شاهقاً لا يبلغه إلا “المتطرفون” من الرواد وهواة تسلق الجبال!!
فاتفاق غزة – أريحا بئر بلا قرار، وقد تمكن عرفات “بشطارته” التي شوهت حقبة كاملة من عمر النضال العربي أن يبتكر أساليب جديدة للنزول تحت الحد الأدنى من الأدنى، وهكذا حول ثوار فلسطين والمنذورين للموت من أجل تحريرها إلى حرس حدود للاحتلال الإسرائيلي،
وفي ذلك “اللاقرار” وبحماية التوقيع الفلسطيني ذي الوهج الخاص وبفضل تميزه شبه المقدس، أمكن للملك حسين أن يندفع عميقاً نحو الشراكة المستحيلة مع الإسرائيلي في معاهدة وادي عربة التي أسقطت حتى المعايير العرفاتية: فهي قد فتحت عاصمة عربية أخرى لاجتياح إسرائيلي (سلمي هذه المرة) مشرعة أمامه أبواب العراق والخليج، كاشفه ظهراً آخر المقاومين والصامدين في سوريا ولبنان وسائر أنحاء الوطن الكبير.
في المقابل، وفي ظل التوقيع الفلسطيني، معززاً بالتوقيع الملكي، أمكن لأمير المؤمنين أن يتوج الانتصارات الإسرائيلية في المشرق والمغرب بالمؤتمر الاقتصادي الذي انعقد في الدار البيضاء لإخراج حلم صديقه شيمون بيريز من بين دفتي كتابه “الشرق الأوسط الجديد” إلى حيز التنفيذ، بالمال العربي وبالغباء العربي وبالتلهف العربي على حماية أجنبية جديدة تؤمنهم من أنفسهم!
وفي هذا السياق تأتي “البادرة السلطانية” السخية باستقبال اسحق رابين في مسقط!
يقول بعض من يدعي الخبرة والمعرفة التفصيلية بشخصية الرئيس السوري حافظ الأسد، من الدارسين والدبلوماسيين الغربيين، أن هذا القائد المتمرس يريد – وبأي ثمن – أن يستصدر إدانة متأخرة للشريك الذي خذله في الحرب، أنور السادات، بأن يحقق لبلاده ما قصر عنه الرئيس المصري السابق الذي انتهى مقتولاً، أي :اسنحاب أكل بشروط أفضل وفي مدى زمني أقصر…
والأسد لم يبدل موقفه من معاهدة كامب ديفيد، برغم تعاقب الاتفاقات وكلها أدنى منها وأبأس، فهو ما زال ينظر إليها كما تلقتها الأكثرية العربية آنذاك أي بوصفها “تفرداً” و”تفريطاً و”تبرعاً بالمزيد من الحقوق العربية – التاريخية” يأخذ من مصر أكثر مما يجب ويعطي إسرائيل أكثر مما يجوز لقاء “سلام غير متكافئ” قد يكون أثقل من أن تتحمل وطأته مصر.
ومفهوم أن معضلة خلف السادات، الرئيس المصري حسني مبارك، تتصل في بعض وجوهها بهذه المفارقة: فهو أعجز من أن يخرج من المعاهدة وعليها، ولأنه أسيرها فهو أعجز من أن يحل أزمة مصر الوطنية وبالتالي السياسية والاقتصادية، وكلا العجزين ثقيل الكلفة، ومصر هي التي تدفع الأثمان جميعاً.
… ومعروف أن الرئيس المصري يغبط حافظ الأسد ويتمنى لو كان يستطيع أن يتصرف مثله.
ومعروف أيضاً أن الأسد قد اكتسب شعبية ملحوظة في مصر، وحتى المتحفظون (عقائدياً) على طبيعة نظامه لا يخفون إعجابهم بحنكته وحكمته وأنفته وصموده، ويتمنون لو أن قياداتهم كانت تتمتع بأهلية عالية لكي تحذو حذوه.
في أي حال، فإن الرئيس حافظ الأسد، المحاصر بالضغط من الجهات كافة، هو أكثر الرؤساء والملوك العرب ارتياحاً إلى وضعه الدقيق إلى حد الحرج والذي لا يحسد عليه.
فهو بعكسهم جميعاً لا يخاف “الداخل” ، كما أنه يتقن فن التعامل مع الخارج في ضوء قراءاته الذكية والمتأنية للتحولات وصراع المصالح الدولية.
أما سائر الرؤساء والملوك، وبينهم مت تجمعه إليهما قمة الإسكندرية اليوم، فهم متعبون في الداخل وفي علاقاتهم بالخارج الذي اختزلوه فصار أميركياً بالمطلق،
وليس أمراً عارضاً أن يكون حافظ الأسد قد نجح في إرساء علاقة متميزة مع الخصم التاريخي (إيديولوجياً وسياسياً دائماً، وشخصياً ولفترة طويلة)، أي الولايات المتحدة الأميركية، في حين يعاني أقرب الأنظمة العربية إلى واشنطن كمصر والسعودية من خلل جدي في علاقتهما بها، ويتهمانها بممارسة سياسة الابتزاز السياسي والمادي (أو كليهما بالنسبة للمملكة) عليهما.
كذلك فليس أمراً عارضاً أن تكون القيادة السورية، وهي التي خاضت بالأمس أشرس المواجهات إطلاقاً مع ما يسمى الآن “التطرف الإسلامي” ممثلاً بحركة الأخوان المسلمين، مصدر الحماية المعنوية للتيار الأصولي اليوم، وإن تحفظت عن القيام بدور الحاضنة السياسية لأسباب تخصها وتخصه… لكن دمشق اليوم تتسع لأطراف هذا التيار جميعاً، يلجأون إليها للمشورة والرأي والتنسيق، بينما تتصادم الأنظمة التي ترفع راية الإسلام أو تستعير منه الأسماء والألقاب مع رعاياتها المسلمين.
في الأخبار، إن القمة تعقد بناء على طلب من حافظ الأسد.
وهذا صحيح. فلو طلبها غيره لما كانت.
إنه الوحيد الذي يسمع له الآخرون، ولاسيما حسني مبارك والملك فهد، لأنه يستطيع بعد أن “يعطيهم” ما هم بأمس الحاجة إليه، في حين أنهم أعجز (وأفقر الآن) من أن يعطوه.
إنه يريد منهم شيئاً واحداً: أن يصمدوا عند “القاع” القديم، أي عند كامب ديفيد، فلا تأخذهم موجات التفريط الجديدة إلى “اللاقرار”. وهو بالتأكيد يعي أنهم مجبرون على الالتزام، فمهما كانت هيبة الخارج يظل الداخل مصدر الخوف على المصير. ولعله يفيد الآن من موقفيهما المتحفظين في مؤتمر الدار البيضاء، فيقنعهما بتطويره، بما يخدم الصمود السوري (اللبناني) في “الحرب” الإسرائيلية الجديدة التي تتخذ لها اسماً “المفاوضات الثنائية” تحت الرعاية الأميركية.
وبعد ذلك يمكن إدراك بنود كثيرة على جدول أعمال هذه القمة… الرمزية.

Exit mobile version