الآن، وقد اكتملت صورة “الحدث المصري” بات ممكناً أن نعيد قراءة ما جرى بعين جديدة، وأن نصل إلى استنتاجات وتوقعات أدق حول مستقبل الوضع في مصر، ومن ثم في الوطن العربي بأسره.
وبداية نقول أنه ليس من المبالغة في شيء أن نعتبر هذا الذي حدث في مصر، والذي ما يزال يحدث، عنواناً أو بداية لمرحلة جديدة في تاريخ النضال العربي المعاصر.
فالمهم أن “الشعب” قد عاد إلى الساحة، والأهم أن الشعب هنا هو الشعب الطبيعي غير المقنن وغير المعلب، الشعب بما هو بشر وجماهير حية ومبدعة وواعية وخلاقة، الشعب بأحزابه (هو) وتنظيماته (هو) وجمعياته (هو) ومؤسساته الأهلية (أي غير الحكومية).
وليست قرارات السادات القمعية إلا إعلاناً صريحاً منه بعظمة هذه العودة وجلالها، وبذعره منها، وبعجزه عن مواجهتها إلا بالسلاح الأخير الذي يملكه كسلطة، أي بالقمع والسجون والإرهاب والحجر والتوقيف والمحاكمات، والمزيد من صنوف القمع في كل يوم.
… وفي الغالب الأعم فإن اللجوء إلى سلاح الإرهاب والقمع الجماعي هو بالضباط المؤشر المبشر ببلوغ النظام بداية نهايته.
من هنا لم يخطئ كثيراً ذلك النفر من “الكتيبة” عند السادات حين وصفوا “الحدث المصري” بأنه “ثورة ثالثة” وإن كانوا ارتكبوا خطأ بسطا فنسبوا الثورة إليه في حين أنها عليه، تماماً كما أخطأوا خطأ بسيطاً آخر حين اعتبروا “15 مايو” تصحيحاً في حين أنه انقلاب بالردة على ثورة 23 يوليو.
والفارق بين “15 مايو” وما جرى ويجري هذه الأيام في مصر إن تلك الحركة كانت انقلاباً في القصر وعلى أهل القصر ممن أوصلوا السادات إلى سدة الرئاسة، أما ما يجري الآن وبعد عشر سنوات تقريباً من ذلك الانقلاب، فهو أشبه ما يكون بـ “حرب وقائية” يحاول بها السادات أن يستبق بها “ثورة شعبية”، ليجهضها قبل أن تنبجس نوراً يشق فيسقط هذا الليل العربي البهيم.
والمؤسف أن أنور السادات رأى خطر هذه الثورة الشعبية بوضوح يزيد عن ذلك الذي كان يملكه “القادة المحتملون” لهذه الثورة كما أنه كان أسرع إلى المبادرة منهم، وأشد حسماً وحزماً وأقدر على الاستشفاف من أكثريتهم المطلقة.
هي، في أي حال، وباتفاق الآراء، “ثورة” هذه التي نشهد وقائعها البهية على امتداد أرض الكنانة بين الإسكندرية وأسوان مروراً بقاهرة المعز.
ويجب أن نسجل لأنور السادات الفضل في أنه أعاد الروح وبعث على الحياة أول مشروع جدي لجبهة شعبية حقيقية. فالعمل السياسي العربي يفقتد، ومنذ أمد بعيد، هذا النوع من الجبهات الشعبية التي تلتقي أطرافها المتنافرة والمتمازية سياسياً وفكرياً واجتماعياً على قاعدة العمل المشترك من أجل إنقاذ البلاد من محنتها الوطنية.
ذلك أن أنظمتنا العربية “الخالدة” تعلمت من تجارب الماضي دروساً ثمينة أولها وأهمها أن تدمر القوة التي تصل إلى السلطة سائر القوى الحليفة تدميراً بالترغيب أو بالترهيب، حتى تقضي عليها تماماً، وقبل ذلك حتى تمنع احتمالات اللقاء في ما بينها مهما كلفها الأمر.
ويبدو أن السادات لم يستوعب هذا الدرس، وهذا من حسن حظ الحركة الشعبية في مصر التي افتقدت – لأمد طويل – القيادة الموحدة والقادرة على إنجاز مهماتها الوطنية، فجاء السادات يوحدها بالأمر وبقرار الاعتقال الجماعي.
بالمقابل يجب أن نسجل على هذه الأنظمة العربية إنها هي هي التي أغرت السادات ومكنته من أن يضرب ضربته في مصر، مستهدفاً القوى السياسية جميعاً من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار مروراً بأصناف الوسط والوسطيين العديدة.
إن اطمئنان السادات إلى واقع أن الأنظمة العربية الأخرى “بيوتها من زجاج”، وهي “سباقة” و”رائدة” في مجال القمع، والقمع بالجملة، جعله يتخذ خطوته بكثير من الثقة إلى أن تلك الأنظمة لن تستطيع – بمعظمها – أن تتباهى عليه بديمقراطيتها وتقديسها للحريات ولحق المعارضة في العمل.
ومن أسف، إن ما فعله السادات دفعة واحدة وعلناً وعبر إجراءات مقننة، شكلاً، هو بعض ما تفعله الأنظمة الأخرى سراً وبالتقسيط ومن دون إعلان، ومن دون قوانين، طبعاً، وبغير ما حاجة إلى مدع عام اشتراكي أو محاكم “قيم” و”عيب” وخلافه.
ومن أسف أن كثيراً من الحكام العرب الآخرين يشاركون السادات نظرته إلى العمل الوطني فيرونه “عيباً” وإن اختلفوا معه في التسمية فجعلوه “تآمراً” على الثورة أو على الوحدة أو على الأمة أو على كل هذه المقدسات مجتمعة وممثلة بشخص الحاكم بأمره.
وتبقى جملة من الملاحظات التي نرى من الضروري تسجيلها اليوم، والمعارضة الوطنية في مصر تعيش أقسى (وأبهى) أيامها، في محاولة لإضاءة طريق المستقبل أمامها ومن ثم أمامنا جميعاً… وأبرزها اثنتان:
*الأولى: إن قسماً من قوى المعارضة المصرية قد وضعها في طريق مسدود بالطائفية عن الأفق القومي الرحب، حين أغرق نفسه وكاد يغرق معه البلاد في حمى التعصب الطائفي ومتى؟! بينما مصر معروضة – بأرضها وشعبها وكرامة قواتها المسلحة – في سوق النخاسة الأميركية – الإسرائيلية.
وإذا كنا نرفع الصوت بالاستنكار إلى مداه ضد عزل البابا شنوده وضد اعتقال قيادات “الأخوان المسلمين”، ونطلب له ولهم حرية العمل والقول، فإن هذا لا يقلل أبداً من أدانتنا لأسلوبهم الخاطئ بل المدمر في العمل السياسي والذي أضاع الكثير من جهد شعبنا في مصر حين غطوا على الأزمة الوطنية الحقيقية بالمساهمة في افتعال أزمة طائفية ظلت مصر براء منها على امتداد تاريخها.
ومن حق أي مواطن مصري، بل وأي مواطن عربي، أن يأخذ على قادة الأقباط كما على قادة “الأخوان المسلمين” إنهم تعاطوا مع مصر وكأنها أقباط ومسلمون، فسهلوا على السادات أن يعبر فوق الجسر الأميركي إلى الصلح الإسرائيلي.
لقد أضر الطرفان بقضية مصر الوطنية، والقومية، ضرراً يكاد يوازي ما ألحقه بها السادات… بل إن الطائفيين عموماً كانوا العكازات التي استند عليها أنور السادات في ضرب ثورة 23 يوليو ومن ثم في ضرب مصر قلعة النضال العربي المعاصر وقائدته ورائدته طوال المرحلة الناصرية.
وتكراراً مع استنكارنا وشجبنا لاعتقالهم، ومع مطالبتنا الملحة وبأعلى الصوت بإطلاق سراحهم، فإن من حقنا أن نأخذ عليهم أنهم كانوا “ساداتيين” في جوهر سياستهم و”ساداتيين” في حقدهم على الناصرية وعلى مصر العروبة والثورة.
ولا نقول هذا الكلام من باب الشماتة، بل من باب التقييم السياسي ونحن نريدهم أحراراً طلقاء لنهزمهم بالحجة والمنطق وفي ساحة العمل القومي. وتحديداً في ساحة العمل من أجل تحرير مصر.
ونتمنى أن يعطيهم تصرف السادات الفرصة لإعادة النظر في مواقفهم وفي سياساتهم الخاطئة، ليس فقط تجاه السادات وما يمثله بل أساساً تجاه القوى الوطنية والقومية والتقدمية في مصر وخارجها.
*والملاحظة الثانية – إن المعارضة المصرية بمجمل فصائلها قد أضاعت وقتاً ثميناً قبل أن تلتقي على الحلقة المركزية لنضال شعر مصر أي على النضال ضد إخضاع مصر للهيمنة الأميركية والصلح مع العدو الإسرائيلي.
وما من شك في أن السادات قد استفاد، وأيما فائدة، من هذا الوقت الطويل الذي ضاع في مفاوضات معقدة (بغير أن يفهم أحد أسباب التعقيد فيها) بين حزب التجمع وحزب الوفد وحزب العمل الاشتراكي وبعض القوى المهنية والنقابية والفئات المستنيرة داخل مصر.
وما من شك أيضاً في أن السادات قد مهد لضربته الشمولية هذه بمجموعة من الضربات الصغيرة، التي استهدفت تحطيم الأطر (لاسيما المهنية والنقابية) التي كانت تنتظم فئات عديدة وقوى أساسية في المجتمع المصري، بحيث تسهل عليه – من ثم – مواجهة المصريين كأفراد.
ومن أسف أن قوى المعارضة في الداخل (والقوى السياسية العربية في الخارج) لم تتنبه بالقدر الكافي إلى خطورة هذه الضربات التي أصابت نقابات المهندسين والصحافيين ثم المحامين إضافة إلى الجسم العمالي، ولم تتحرك – في مواجهتها – بالحيوية المطلوبة والمؤثرة في وقفها.
ولا بد هنا من رفع الصوت مرة أخرى بالاعتراض على سياسة الأنظمة العربية – إياها – تجاه المعارضة الوطنية المصرية.
فلقد سلكت هذه الأنظمة وما تزال تسلك، تجاه معارضة شعب مصر لنظام السادات، سياسة أضرت بها ضرراً فظيعاً.
ومن الشجاعة أن نعترف بأن السادات ضرب مشروع الثورة الشعبية في مصر بسيف “عربي” بمعنى ما… فهو ضربها عملياً بسيف العجز العربي العام عن إلحاق الهزيمة به وبسياساته ابتداء من خيمة الكيلو 101 مروراً باتفاق فصل القوات فاتفاق سيناء فزيارة الخيانة إلى القدس المحتلة. فاتفاقات كامب ديفيد وصولاً إلى الصلح الكامل مع العدو الإسرائيلي.
لكن الأمل يجيء دائماً من الداخل.
ولعلنا، خارج مصر، ننتظره منها أكثر مما ننتظره من خارجها، بل لعلنا ننتظره منها ونراه قريباً بأكثر مما يراه أبناؤها سواء من تم اعتقالهم أم من ينتظرون دورهم في الضبط والحجز والاعتقال.
ونحن في هذا لا نفعل إلا المصادقة على ما قاله أحد أبرز المعتقلين ونعني زميلنا الكبير محمد حسنين هيكل من أن مصر وحدها هي القادرة على صنع استراتيجيا عربية، أما الأقطار الأخرى فلا تستطيع ذلك، مهما بلغت براعتها في التكتيك.
وما يلزمنا في زمننا الرديء هذا استراتيجيا تنقذنا من فنون التكتيك الذي أضاع الكثير، والذي يهدد استمراره بإضاعة ما تبقى من أوطاننا: أرضاً وبشراً.