طلال سلمان

على الطريق عين الرمانة: أهلنا – الضحية..

جرحك هو الجرح، ودمك هو النازف، على رغم بعد الشقة، وألم الغربة عن الذات والاختناق بريح الحقد والكراهية والشماتة التي ينشرها هذا المستنقع الآسن الذي نكاد نغرق فيه، نمد أيدينا بالرجاء ولا مخلص أو مغيث، فتنتهي بأن تهتم بسلامة رأسك والسلام، ولا سلامة ولا سلام إلا بالجميع وللجميع، ولا جميع…
كانت عين الرمانة بيتك، والشارع طريق النزهة لأطفالك، صارت عين الرمانة قارة أخرى فيها مخلوقات غريبة عنك غريبة عليك، وتمددت بينك وبينها الحرب فإذا هي في أدنى الأرض وأنت في الأقصى أو العكس. صارت عين الرمانة مصدر الموت، أو صارت القبر، ونبت للأطفال فيها لحى مقنبلة، واستطالت أذرعتهم بنادق ومناجل، وانتفت الروابط والصلات وأخفيت الذكريات وأنكرت صور الأحبة واللحظات الحميمة حتى لا تصنف عدواً للحرب وتعدم بتهمة الخيانة العظمى لقاموس الكراهية الواجب اعتماده في العلاقات بين الأشقاء.
لم يبق من رابط إلا الأثير وقذائف المدفعية والسكون السابق لعاصفة الموت التي يمكن أن تهب، من جانبي الطريق القاتل والمقتول في أية لحظة.
أبيدت أصص الورود، اغتيل الحبق، وحولت الشرفات التي كانت تشد قلبك بالمرحبا و”أهلاً تفضل” و”اشتقنالك، شرب اشرب القهوة معنا”، على متاريس يترصدك من خلفها القناص أو “البصباص” الذي يعطي “الرامي” أدق ما يمكن من “الإحداثيات” لتكون نتائج الإصابة أفجع وأشد إيلاماً.
صارت عين الرمانة في الأخبار، صار أهلها “العدو” وصرت “عدوهم”… وأخذت تبتعد عنك وتتغير، لم يعد لك أحد فيها، لم تعد أنت أحداً بالذات لأحد بالذات فيها. صار “هم” ، صرت “هم”. صرتما الهم مشطوراً وموزعاً على اثنين. صيّرت الحرب واحدكما وحشين مقتتلين يفرح واحدهما كلما التهم من ذاته أكثر، مفترضاً أنه يأكل الآخر، ولا آخر إلا أنت – هو، هو – أنت، أي الناس كلهم في البلد الصغير ذاته.
صارت عين الرمانة، مثلها مثل الضاحية الأخرى الضحية الأخرى، الشياح، عنواناً للحرب التي اتخذت من الخط الرابط – الفاصل بينهما مقر قيادة ثم أطلقت أذرعتها في كل اتجاه تحصد البشر والأبنية والشجر، الكتب وأقفاص الحساسين وطيور الحب والمنحنيات التي كان يتوارى فيها العشاق عن عيون “العواذل” والفضوليين.
وصار متعباً استذكار حقيقة بسيطة مفادها إن عين الرمانة مثلها مثل الشياح “حي” أو “حارة” من أحياء مدينتنا، أهلنا هو الذين فيها وإن تبدلت الأسماء… يستوي في ذلك القاتل والقتيل، وعلينا أن نبكي الاثنين، منهما وعليهما في آن.
الحرب تجيء في اللاوقت، تجيء صباحاً ومساء تجيء، وتصنع الظهر والعصر ولحظة الغروب المثيرة للشجن والتأمل وافتقاد الولف ودفء الصحبة المؤنسة.
قد تجيء منسلة من خيوط العتمة، وقد تسبق انبلاج الفجر، أو قد تتأخر حتى ترتفع الشمس ويغري الظل المستحم ببرودة الندى برشفه قهوة على الشرفة المطلة على الوجوه الأليفة.
وأمس وصل موكب الحرب المهيب مع الشمس، مع الخبز والصحف وقهوة الصباح وأوتوكار المدرسة، فكانت بديلها جميعاً، وهي في العادة تلغي كل شيء عداها وتلغينا. تتجول ناثرة الموت والحرائق والخراب والتفجع في كل مكان. تخرجنا من دنيانا المتوهمة وتأخذنا إليها فتأسرنا في حماتها، تغسل أدمغتنا، تمحو منها الصح، تشل قدرتنا على التفكير، تنسينا أسماءنا وأسماء “الآخرين”، تضع منطقها على ألسنتنا وتجعل الحقد سلاحاً يتفجر في صدورنا ومن عيوننا وتطلقنا في الاتجاه الآخر للاتجاه الآخر، ثم تذهب لتأخذ قيلولتها في أسرتنا التي ذهب أصحابها ولن يعودوا.
والذين ذهبوا أهلنا، وكذلك الذين بقوا ينتظرون قافلة الموت التالية.
سمعت نجيب أمي أمس، وهزتني رعشة الفجيعة التي اجتاحت الأصوات الأليفة فأعادتني إلى أهلي “هناك”، فهم يبكون ويتفجعون مع أهلي “هنا”. كلاهم يبكي ذاته. وكلاهم ممنوع من التواصل مع ذاته،
وإلا فلماذا لا تجيء السيارات القاتلة إلا كلما بدأ الحديث عن فتح المعابر؟!
هل هي محاولة لتحويل خطوط التماس إلى حدود الكانتونات الطوائف المسلحة؟! هل هي محاولة لجعلها خنادق من الدم يستحيل بعدها التواصل وتأكيد الانتماء الواحد لبلد هو واحد في حاضره ومستقبله ومصيره؟
وفي السياسة يقال إن الكمين الأول للخطة الأمنية في بيروت الغربية أقيم عند “معبر” البربير، وإن الكمين الثاني للخطة الأمنية في الضاحية قد أقيم في عين الرمانة، وإن هدف الكمينين واحد : ضرب ما تبقى من روابط بين شطري العاصمة الواحدة وشطري الضاحية الواحدة، والكل ضحايا.
لكن السياسة أشكال وألوان، وبين أشكالها الراهنة أن يصير الشعب طوائف، وتصير الطوائف مذاهب وتصير المذاهب ميليشيات وأن تقتتل جميعاً حتى لا يبقى من الإنسان وحلم الوطن إلا الذكريات القديمة.
ويا أهلنا في عين الرمانة، وما وراءها مما يجاوز خطوط التماس: أما آن الأوان لأن نلتقي في مأتمنا الواحد؟! لأن نبكي معاً قتلانا؟! أما آن الأوان لأن نسقط خطوط التماس بإسقاط أولئك الذين أقاموها وأبقوها ويريدون تثبيتها لتبقى دائماً متيحة لهم فرصة الإفادة والاتجار بنا في الاتجاهين؟!
أما آن الأوان لأن ندفن الحرب في ذلك الخط عينه الذي ابتدع ليفصل بيننا بامتداد العمر والأفق المشبع بجمرة النجيع؟!
ليس بيننا أو منا أولئك القتلة،
ونحن في أي حال، ومن قبل ومن بعد، مثلكم، بين القتلى،
وهذه الحقيقة هي نقطة البداية في أي عملية اقتحام حقيقية نشنها جيمعاً على الحرب، وصانعي الحرب والمستفيدين من الحرب.
وشرط التلاقي أن نتحرر من “أبطال” الحرب ورموزها الذين يريدون إيهامنا بأنهم هم هم سيكونون صانعي السلام،
مع استدراك ضروري: إن ذريعة الشرعية لا تنفع ولا يكفي سحرها لتحويل القتلة إلى صانعي سلام وبناة أوطان ومبتدعي صيغ عبقرية للصيغة المفتقدة.
والعزاء لنا جميعاً في الذين سبقوا وفي الذين ينتظرون… فنحن أهل الفقيد حيثما كان الفقيد وكائناً ما كان اسمه والمعتقد.

Exit mobile version