طلال سلمان

على الطريق عرفات “الثاني” والصليبيون الجدد!..

يستحق الاحتفال الغربي باستسلام العرب، أخيراً، كل التوصيفات التي تطلق عليه:
*فهو تاريخي، لأنه نقطة نهاية لحقبة كاملة من النضال العربي من أجل الحرية والاستقلال والكرامة وتحرير الأرض والإنسان،
لقد عاد العرب إلى نقطة البداية، أو على ما دونها بكثير: فأرضهم الآن محتلة، ومواردهم بيد غيرهم، ومصيرهم يقرره عدوهم، وإنسانهم مضطهد ومحروم من أبسط حقوق الإنسان!
*وهو استثنائي لأنه لم يحصل في التاريخ أن احتفل المهزوم بهزيمته، وإن ارتدى ثياب العيد للتوقيع على صك استسلامه، واصفاً عمله هذا بأنه “سلام الشجعان”.
*وهو فريد في بابه لأنه يستدعي الماضي ليجعله عنوان المستقبل،
فمهما دارى القيمون على الحفل فهم لن يستطيعوا تمويهه وطمس دلالاته الرمزية: لكأنه احتفال للصليبيين باستكمال سيطرتهم على المنطقة التي لم يستطيعوا إخضاعها بالكامل قبل ألف عام، وها هم الآن ينجزون ما عجز عنه أسلافهم،
الطريف أن الضحية تشارك في الحفل، وتبتسم لعدسات المصورين وتتصرف وكأنها هي صاحبة النصر أو شريكة فيه، بينما الكل يتغامز عليها تاركاً لها المسرح لتقدم فاصلها الهزلي!!
بهذا المعنى يكتسب دور النروج ذاتها بعداً إضافياً: لكأنه استنفار شامل لحملة جديدة لم يتخلف عنها أحد من الغرب كله، والعلم النروجي – للمناسبة – يقول ما تعجز عن إيصاله الكلمات في هذا المجال.
ودعي أو مكابر هو ذلك الذي يصور احتفالاً إسرائيلياً في البيت الأبيض الأميركي نصراً للعرب وللعروبة في فلسطين وعلى طريق استعادتها.
في السياسة لا مجال للياقات والمجاملات المضيعة للوقت.
وليس مهماً بالتالي أن يحضر أو يغيب أهل “العروس” عن حفل الزفاف التاريخي الذي سيشهده البيت الأبيض في واشنطن اليوم،
إنه احتفال بإنجاز غربي قل نظيره، والوجود “العربي” فيه من قبل استيفاء الشكل ليس إلا، طالما أن لا أحد يملك الحق أو القدرة على إلغاء الحفل أو تعطيله.
وهو احتفال مستفز لأي عربي، ولكل عربي، بمن فيهم أولئك الذين يسلمون بالقدر الأميركي.
لكأنه احتفال بوفاة فلسطين وليس ولادتها،
لكأنه احتفال بوصول المشروع الصهيوني إلى درجة من الاكتمال لم يكن يحلم بها “جيل الآباء” من المفكرين أو “جيل الرواد” من بناة الكيان ذي الجذر الخرافي فوق الأرض العربية بفلطسين.
لكأنه احتفال بانتهاء الطور الجديد من الحروب الصليبية بنصر غربي مؤزر على مجموع العرب والمسلمين،
“لقد عدنا يا صلاح الدين”… قالها الجنرال اللنبي وهو يدخل المنطقة منتصراً على بقايا الدولة الإسلامية ممثلة بالسلطنة العثمانية.
ويمكن الآن للرئيس الأميركي بيل كلينتون أن يعرض في الاحتفال بالاتفاق الإسرائيلي سيف صلاح الدين الأيوبي وحصانه وخوذته كمغانم حرب،
ولعل ياسر عرفات قد حمل إليه ضمن الهدايا التي تعود تقديمها باسم التحرير صدفيات من حطين، أو تمثالاً لريكاردوس قلب الاسد، بوصفه “شريكه” في المصالحة التاريخية الجديدة.
من بريطانيا (العظمى) نال الصهاينة الأوائل وعد بلفور بإقامة “دولتهم” إسرائيل فوق التراب العربي بفلسطين.
وفي البيت الأبيض بواشنطن يتسلم آخر الصهاينة من الفلسطينيين مفاتيح البيوت التي هجرهم منها، ومعها الاعتراف بدولة “إسرائيل” بعد خمس وأربعين سنة من إقامتها ومن إدامة وجودها فوق أرض فلسطين.
والذين عجزوا عن مقاومة تحويل “الوعد” إلى “دولة” هم الذين يرون أنفسهم مضطرين اليوم للاعتراف بهذه الدولة على حساب دولهم الكرتونية كافة وليس فقط على أنقاض حلم “الدولة الديمقراطية في فلسطين”.
فأولئك الذين لم يستطيعوا منع إقامة دولة العدو فوق أرضهم كانوا قد فشلوا قبل ذلك في إقامة “دولهم” هم، ولعلهم بهذا قد مهدوا أو ساعدوا على أن يكون “العدو” هو الدولة الوحيدة في هذه المنطقة، وأن يتحكم بمقاديرها كافة وصولاً إلى تبديل اسمها بحيث تغدو تسمية بحث جغرافية وقياساً للغرب، الشرق الأوسط، ولا علاقة لها بأهلها المائتي مليون عربي.
ليس البيت الأبيض دار توليد أو حاضنة لدولة فلسطين. لقد كان وما يزال الحاضنة الشرعية للكيان الصهيوني،
لذلك فبائسة هي المراهنات على أن هذا “الدخول” الفلسطيني إلى البيت الأبيض يتم على حساب إسرائيل.
إنه دخول تدفع فلسطين ثمن بطاقته من لحمها،
بل إن عموم العرب يدفعون ثمن هذه البطاقة من مستقبلهم،
فياسر عرفات يذهب إلى البيت الأبيض بمذكرة جلب تشترط عليه نوع اللباس وطريقة التصرف وساعة الحضور وكذلك ساعة الانصراف.
إن حضوره ضروري للتوقيع على تسليم فلسطين، وليس لاستلامها.
وإسحق رابين “يبشر” سلفاً بأن العلم الفلسطيني لن يرتفع أبداً فوق القدس…
أما بيل كلينتون فيعرف جيداً أن رفع العلم الفلسطيني للحظات في حديقة البيت الأبيض، في مثل هذا الاحتفال، هو توكيد للحضور الإسرائيلي و”تثبيت لشرعيته الدولية بالتوقيع الفلسطيني أكثر مما هو تسليم بحق الفلسطينيين في أرضهم بفلسطين،
تماماً كما كان رفع العلم المصري في كامب ديفيد هو تثبيت للكيان الصيهوني على حساب مصر، وليس استحضاراً لمصر وتاريخها ودماء شهدائها الذين تساقطوا على طريق فلسطين وباسمها.
إنه التوقيع العربي الثانين والبقية تأتي،
ها هو ياسر عرفات بعد أنور السادات، يجيء مثله من “الثورة” و”الكفاح المسلح” و”الجهاد”، وينتهي مثله بأقل مما كان يقول به دعاة الحلول الوسط و”نظرية خذ وطالب” وتسفيه الثورة والقتال والتحرير والكفاح المسلح، والقول بالمساومة والمفاوضة ومن حضن الغرب وليس من موقع “العدو” العقائدي (الديني) والسياسي…
وياسر عرفات كان هناك يوم أعلن السادات فلم يصدقه العرب ومعظم العالم إنه ذاهب إلى الكنيست الإسرائيلي،
ولعل عرفات نادم اليوم إنه لم يستطع الذهاب آنذاك، إذن لاستطاع أن يعود بأكثر مما استطاع الحصول عليه الآن،
ولعله يحاول التعويض الاستدراك، مفترضاً أن استقباله في البيت الأبيض سيعطيه ما لم ينله باتفاق أوسلو من الإسرائيلي،
ولعل عنوان صفقة عرفات الجديدة أنه بتوقيعه لن يكون الثاني فقط، وإنما هو سيفتح الباب الثالث والرابع والخامس الخ…
فالسادات لم يكن يملك أكثر من أن يفتح أبواب مصر أمام إسرائيل، ومن خلفها الغرب،
بل لعل السادات قد فتح مصر لإسرائيل كنتيجة طبيعية لانتقاله بمصر من موقعها بين العرب، وعلى رأسهم، إلى الغرب، ولا يهم أن يكون الموقع في الذيل… فأتاتورك قد فعل ذاك بتركيا من قبل.
أما عرفات فيستطيع الادعاء إنه فتح أبواب المنطقة جميعاً للغرب الإسرائيلي ولإسرائيل الغربية،
فإذا كان السادات قد كسر الحاجز النفسي لمجيء العربي إلى إسرائيل فإن الفلسطيني وحده هو الذي يستطيع أن يأخذ الإسرائيلي إلى العرب في مختلف أقطارهم.
والأهم عند الإسرائيلي ليس أن يجيئه العرب مسلمين باحتلاله لبعض بلادهم بل أن يستطيع اقتحامهم حيث هم موسعاً مدى نفوذه وهيمنته على كامل الارض وكامل الإرادة العربية.
وتبقى كلمة أخيرة حول لبنان وحكاية دعوته لهذا الاحتفال الأسطوري واحتمال أن يحضر ولو بشكل رمزي.
إن الحضور خطيئة لا تغتفر، إلا إذا كان ثمة من يهوى أن يسير في جنازته شخصياً وأن “يحتفل” بهزيمة أمته.
إن الحضور يتجاوز تبرير هذا السقوط لياسر عرفات ليبرئ ذمة إسرائيل من جرائمها ضد شعب لبنان بالذات، والجريمة مستمرة طالما استمر الاحتلال الإسرائيلي لشبر واحد من أرض لبنان، وطالما تواصل تحكمها بالإرادة وبالقرار السياسي اللبناني.
لا يكلف الله نفساً، إلا وسعها، وليس لبنان الرسمي مكلفاً بأن يكون شاهد زور على هذا الانتصار الإسرائيلي الباهر ليس على الفلسطينيين فقط وإنما على مجموع العرب.
وقد لا يكون لبنان قادراً أو مطالباً بمنع هذا الاحتفال المهين لكل عربي، لكن غيابه بديهي كأبسط أنواع الاعتراض خصوصاً وإن الإسرائيلي لم يتكرم عليه بعد بالاعتراف بأنه يحتل أرضه في الجنوب والبقاع الغربي.
وستذه “السكرة” بعد أيام أو اسابيع أو شهور، وتعود حقائق الحياة لتفرض نفسها على الجميع.
ومن الأفضل انتظار حفل الختام فوق أرض فلسطين بدلاً من التلصص على حفل الانتصار الإسرائيلي على العرب جميعاً في البيت الأبيض الأميركي، وكضيوف ثقلاء وسط ذلك الحشد الذي لا يتلاقى على شيء قدر تلاقيه على استعادة هيمنته على هذه الأرض المقدسة،
ولقد عادوا، فمتى نعود؟!

Exit mobile version