طلال سلمان

على الطريق سلام الحطام العربي

قال لي عبر وقاز حزن الثمانين:
“- لقد كنت هناك… أنا عائد لتوي من الفلسطينات المشلعة مزقاً وكيانتات. زرت وتجولت في أشتاتها جميعاً: المحتل منها قبل 1948 والذي بات الآن بعض “إسرائيل” رسمياً، والمحتل بعد 1967 والذي يريدون أن يصطنعوا منه الآن الكيان الجديد مجهول التسمية والتوصيف السياسي. ذهبت إلى العاصمة العتيدة، أريحا، كما حججت إلى القدس، أو ما تبقى منها قاعدة لحلم العاصمة الأصلية في حلم الدولة المرتجاة…”.
صمت قليلاً ربما ليهيئني لصدمة الارتطام بالحقيقة:
“- الناس سكارى وما هم بسكارى. إنهم مع “الحل”، برغم وعيهم أنه ليس حلاً حقيقياً. إنهم يفترضون أن أي شيء لن يكون أسوأ مما هم فيه. لقد نزلوا مع الأسوأ إلى الدرك الأسفل. ليس بعده تحت. إنهم تحت خط اليأس. وقد ذهب الياس بالعداء. العداء يحتاج إلى قوة، والقوة تأتي من روح الجماعة ومن الالتقاء على هدف، ومن الإحساس بأنهم ليسوا وحدهم وإن أمتهم معهم ومن خلفهم، قد تقصر لكنها لا تتخلى عنهم ولا تنكرهم وتملك السلطة لمنع التفرد أو التفريط أو الاستسلام المطلق…
“لقد أنهكوا. إنهم حطام. ولذا فلقد كانوا مستعدين لأن يقبلوا بأي شيء، طبعاً، ليست هذه حالة نهائية، وبعضهم يسر إليك أن المهم الخروج من مستنقع العجز والتآكل اليومي للأرض والروح المعنوية، وإن دينامية الجمهور ستغير كل هذا… لكنك تستشعر أن بعض هذا الكلام يجيء في باب تبرير ما حصل أكثر منه في باب التبشير بما سيكون…”.
أطرق لحظات، وتشكلت هالة من الحزن الأسود من حول بياض شعره المطلق، ثم أضاف بنبرة جارحة:
“أتعرف… لم يصدمني الواقع، على قسوته. ربما كنت قد هيأت نفسي لتقبله، خصوصاً وإنني لم أنقطع عن متابعة الوقائع اليومية، وكنت أطل باستمرار – قراءة ومعايشة ودراسة واستماعاً موثقاً – على الأوضاع في الأرض الفلسطينية المحتلة.
“ما أفزعني أمر آخر، لعله أبشع ما سمعت في حياتي…
“قال لي أكثر من واحد ممن التقيت: “لا نريد دولة جديدة. لا نريد كياناً مستقلاً بالمطلق عن إسرائيل. إننا نريد أن نبقى على صلة ما بالإسرائيليين حتى لا تقوم على أرضنا “دولة” على نمط “الدول العربية” يحكمها نظام آخر على غرار هذه الأنظمة التي تتحكم بالعرب والتي لولاها لما صاروا إلى ما هم فيه من تمزق وتخلف وامتهان لكرامة الإنسان…”!
هل تحول الكابوس إلى حلم و”الغول” إلى ملاك و”العدو” إلى مثل أعلى؟!
أمحكوم على العرب أن يعيشوا معلقين دائماً بين خرافتين، وألا يعرفوا الحقيقة أبداً: حقيقتهم هم ثم حقيقة عدوهم؟!
لقد عاشوا مع الكيان الصهيوني عقدين من الزمن بغير أن يهتموا بمعرفته… بل كانت القاعدة أن يهونوا من شأنه بحيث يفترض سامعهم أنهم لو كان لديهم فائض من الوقت لاجتثوا وجوده من الجذور، فإسرائيل ليست أكثر من عصابات كونها شذاذ الآفاق ودهموا بها الأمة قبل أن تستكمل تحررها من الاستعمار، فاستطاعوا بالتواطؤ معه وبتغطية منه أن يغصبوا أرض فلسطين، وإن الانتصار على الاستعمار سيفضي حتماً إلى انهيارها واستعادة الأرض المقدسة.
ثم في العقد الثالث المنتهي بالصلح المنفرد الأول (السادات ومعاهدة كامب ديفيد) انتقلوا إلى التهويل، فإذا إسرائيل هي الولايات المتحدة الأميركية، بل الغرب كله، وإذا الحرب معها مستحيلة بينما الهجوم عليها بالسلام هو الذي يؤدي إلى “عزلها” و”تحجيمها”، إذ متى صار العرب “أميركيين” و”غربيين” مثلها يتهاوى الحلف الجهنمي المعلن ضدهم ويتم استيعاب إسرائيل بعد تجريدها من مشروعها الإمبراطوري الآتي باسم الغرب كله… فإذا تولى العرب بأنفسهم حماية المصالح الغربية الهائلة تحال إسرائيل إلى التقاعد ويعيش العرب واليهود في الثبات والنبات…
أما الآن، في منتصف العقد الخامس للوجود الصهيوني فوق الأرض العربية، فإن منطق الاستسلام المطلق هو السائد، أقله على المستوى الرسمي، كذلك فإن الانهيارات المتلاحقة على صعيد المؤسسات الشعبية (الأحزاب، التنظيمات، النقابات الخ) قد خلقت له مناخاً مؤاتياً على مستوى رجل الشارع.
صار الهدف، بل المطلب، الخروج من الحرب،
صارت الحرب ملعونة، مرفوضة، منبوذة ، والقول بها تجديف وتآمر على الشعوب لحساب الأنظمة التي استعبدتها باسم الاستعداد للتحرير ثم استعبدتها مرة أخرى عندما توالت هزائمها ولما تزل،
صار “السلام الإسرائيلي” في مرتبة المطلب طالما أن “الحرب العربية” هي الجحيم: إذ هي الهزيمة مع استمرار القمع واحتقار الإنسان،
لكن المفارقة أن المهزومين في الحرب هم هم الذين يحاولون الآن أن ينتصروا على “رعاياهم” بالسلام الآتي من تل أبيب، بالرعاية المسبقة أو اللاحقة من طرف واشنطن.
مرات عدة أخذ العرب إلى الحرب. كانت إسرائيل تسوقهم إليها في كل مرة فتسجل انتصاراً هائلاً في مداه، قياسياً في سرعة إنجازه، وعميقاً في نتائجه المدمرة ليس فقط على الوجدان العربي، بل أيضاً على الواقع العربي: أي على العلاقات في ما بين العرب، ثم على طبيعة الصراع بينهم وبين عدوهم.
مرة واحدة ذهب العرب بإلى الحرب بقرارهم، قبل عشرين سنة من اليوم، وكادوا ينجزون، لكن اختلاف المقاصد ضيع الآمال وكاد يضيع المزيد من البلاد، وانتهى الأمر بالسادات إلى صلحه المنفرد إياه.
المؤلم أن العرب الذين لم يتفقوا على خوض الحرب مجتمعين، وبأهداف محددة ومتفق عليها، يواجهون الآن “السلام” منقسمين إلى حد التمزق والاحتراب، ويتبارى كل في بيع أخيه أولاً وشراء صك الغفران وبطاقة دخول النظام العالمي الجديد لنفسه ولو بدماء أطفاله.
إن العرب يتحدثون عن أنواع متعددة من “السلام”، كل بقدر خوفه وإحساسه بالعجز وتلهفه إلى شراء الأمان الإسرائيلي، في حين أن لـ “السلام” مفهوماً واحداً لدى عدوهم الإسرائيلي،
والأغرب أن الذين لم يقاتلوا هم الأكثر إلحاحاً في طلب “السلام” أي سلام!!
أما الذين جمعتهم ذات يوم “وحدة المعركة” فيباعد بينهم اليوم “المفهوم الوطني المستقل” للسلام العتيد!
لقد غدا “السلام” غاية المنى عربياً. وبعض المسؤولين يتحدث عنه بلهجة المعتذر عن عدم تحقيقه قبل اليوم، وبعضهم يظهر الندم لأنه كان قاصر الرؤية أو ساذجاً فأغواه المتطرفون وباعة الشعارات وأخذوه إلى حروب لم يكن يريدها!
بات العرب يعتذرون عن سعيهم لاستعادة أراضيهم المحتلة ومصالحهم المعطوبة وثرواتهم المضيعة قبل أن نستذكر كرامتهم المسفوحة.
كيف يحدد السلام من لم يدفع ثمن الحرب من دمه وهناءة أطفاله وحقوقه كمواطن في أرضه وفي القرار السياسي لدولته؟!
في لبنان وحده مفاهيم عدة للسلام المرتجى!
ومع كل خطاب جديد لأي من المشاركين في الحكم يتبدى مفهوم إضافي لم يكن قيد التداول قبل أيام أو ربما ساعات،
وسوق المزايدات ناشطة كما سوق المناقصات، ففي زمن حكام المقاولات والصفقات تتحوّل القيم أيضاً، بما فيها التراب الوطني والحرية وحقوق الإنسان، إلى بضائع وفائض إنتاج تتحكم به اقتصاديات السوق على قاعدة العرض والطلب.
من هنا التخوّف من أن يخسر العرب في حرب “السلام” أكثر مما خسروا في الحروب الإسرائيلية جميعاً.
وليس سلاماً هذا الذي تنتهي إليه اللقاءات السرية في العواصم البعيدة، فالصلح المنفرد قد يكون خروجاً من الحرب بالانضمام إلى معسكر العدو، وبالتالي فهو يغدو حرباً إضافية على العرب واغتيالاً لسلام التسوية الاضطرارية،
الصلح المنفرد مع الإسرائيلي هو حرب على العرب مجتمعين، كائنة ما كانت المبررات والذرائع.
ومثل هذا “الصلح” الأشوه هو الذي يثبت ويديم الأنظمة المرفوضة من شعوبها والمقبولة من عدوها لأنها تعطيه فوق ما يطلب وليس فقط فوق ما يقدر عليه!
ولن يستطيع هذا السلام الأشوه أن يزين الوجوه القبيحة للأنظمة التي تشتريه بما تبقى من حقوق مواطنيها في أرضهم وفي دولتهم.
الطريف أن النظام الذي كان مرفوضاً في زمن الحرب يفترض أنه سيصير مقبولاً فقط لأنه تنازل عما لا يجوز التنازل عنه،
والمحزن أن أبطال الهزيمة يتصرفون كمنتصرين وهم يسوقون رعاياهم ليصيروا عبيداً ومستهلكين ومجرد يد عاملة رخيصة لدى العدو الإسرائيلي الذي نجح في أن يوهم العرب. بأنه أرحم بهم من حكامهم!
إنه العصر الإسرائيلي.
وقد تجبرنا الظروف على الاذعان لهيمنته والخضوع لإرادته، في انتظار زمن آخر،
لكنه ليس السلام، وليس عصر الازدهار والاستقرار،
وليس زمن الإنسان العربي، بأي حال… مهما علت أصوات أولئك المهزومين المروجين للصلح المنفرد بذريعة أنه المدخل إلى تغيير الداخل!
“إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم..”.

Exit mobile version