طلال سلمان

على الطريق رسالة إلى الجيش

لنقرر، بداية، جملة من البديهيات:
*أولها أن لا وطن بلا جيش، وإن المطالبة التاريخية المتواصلة والمتجددة بضرورة تحويل الكيان اللبناني إلى وطن إنما هي تكريم للجيش، فكرة ودوراً، إذ تنفي عنه المهمة ذات الطابع البوليسي لتربطه بالمهمة الاستراتيجية الجليلة: حماية الوطن والذود عن حدوده.
*ثانيها إن بناء الجيش الوطني يمكنه من أن يتجاوز فوراً المعايير الطائفية وبالتالي المجالس الملية، في القاعدة كما في القمة، لأن التوجه – عندها – يكون إلى المواطنين كشعب وليس كأتباع لهذا الدين أو ذاك المذهب.
ومثل هذا التوه يلغي، على الفور، الشكوى الأبدية من حرمان الأكفاء حقوقهم بسبب انتماءاتهم الطائفية وعدم اتساقها مع النسب والكوتا المرعية الاجراء وكأنها قانون مقدس!
*ثالثها إن أكثر النقد الذي وجه إلى الجيش إنما كان يوجه إلى القرار السياسي، وبالتالي إلى القيادة السياسية التي كانت تحدد كيفية بنائه، ومن ثم وظيفته ودوره (بالمعنى السياسي للكلمة)، ثم تتركه، كمؤسسة، يتحمل نتائج هذا الاستخدام الذي لم يكن موفقاً في معظم الأحيان.
*ورابع البديهيات تكمن في أن أكثر الاعتراضات على استخدامات الجيش ودوره ومهمته إنما كانت تصدر من أحزاب وجهات وقوى تمثل أكثر ما تمثل الأطراف (وليس المركز)، في حين إن الكتلة الأساسية للجيش تتشكل من أبناء هذه الأطراف ذاتها (الشمال والبقاع والجنوب) سواء أكانوا قادمين من قراهم الأصلية مباشرة أم من مواقع عملهم داخل حزام البؤس المحيط بالعاصمة.
ولكم تجلت هذه المفارقة في شكل مأساوي عبر الصدامات التي كانت تحصل، من حين إلى آخر، بين فئات شعبية وقطاعات من الجيش حين كان يزج بالجيش في غير مجاله الأصلي، ولأسباب تتصل بنوازع الحاكم أكثر مما تتصل بمصلحة الوطن أو خير المحكومين (مدنيين وعسكراً!).
في تلك الحالات كان يتصادم الأخوان أو القريبان أو أبناء المنطقة الواحدة، وكلاهما فقير وبائس وغير معني – في الأصل – بأسباب الصدام وإن كانا ضحية نتائجه في أي حال.
*خامس البديهيات، أو خلاصتها إن الشعب لا يمكن أن يكون ضد الجيش هكذا بالمطلق، أي ضد ضباطه وجنوده ولمجرد كونهم ينتسبون إلى المؤسسة العسكرية، فالجيش بعض الشعب، ثم إن الشعب هو من يتحمل الأعباء المالية لتعزيز الجيش عدة وعدداً، لا عسكره يجيء من الخارج ولا المال.. لكن العدو هو الذي يجيء من خارج الحدود، ومن أجل صده ورده أو التصدي له ومقاومته، على الأقل، يكون الجيش وتهون في سبيل تدعيمه التضحيات.
في ضوء هذه البديهيات نفتح باب الحوار مع الجيش وحوله آخذين بالاعتبار مسائل أساسية منها:
** إن الاحتلال الإسرائيلي يخضع لسيطرته المباشرة أكثر من نصف مساحة لبنان (الجنوب ومعظم الجبل وبعض البقاع)، كما يحاصر العاصمة ومقر الرئاسة في بعبدا، ويصادر أو يعطل الإرادة الوطنية الحرة.
أما في الشمال وما تبقى من البقاع فما تزال ترابط جيوش أو قوات مسلحة حليفة وصديقة تم التفاهم مع قياداتها السياسية على مبدأ خروجها وعلى توقيت هذا الخروج بما يخدم الهدف الوطني العظيم: تحرير لبنان.
** وإن العهد في بدايته بعد، ولصاحب العهد آراء معروفة في الجيش ومكامن العيب في تركيبته، وله موقف محدد يعيد الخطايا والأخطاء إلى القيادة السياسية وكيفية استخدامها للجيش وفهمها لدوره، وبين الأمثلة البارزة في هذا السياق ما جرى للجيش في عين الرمانة قبل حوالي السنتين.
** وإن التعيينات الأخيرة قد حملت إلى مواقع القيادة في الجيش وجوهاً جديدة، واختفت بالمقابل وجوه، وقد يختفي المزيد من القدامى، مما يعيد طرح مسألة الجيش ودوره، في ضوء الاحتياج الوطني المتزايد إلى جيش يؤكد وحدة البلاد ويحميها ويساعدها على التخلص من آثار الاحتلال والفتن التي أيقظها وجوده.
** وإن الدولة قد حسمت أمرها أخيراً وأقرت مبدأ خدمة العلم وبغض النظر عن الملاحظات التي سجلت أو قد تسجل على شكل التنفيذ، فإن إقرار المبدأ بحد ذاته خطوة متقدمة على طريق تحقيق المطلب الوطني الثابت بإفساح الفرصة أمام شباب لبنان كلهم لخدمة العلم والبلاد.
في ضوء هذا كله نقول: إن الاستعجال في استخدام الجيش، ومن دون توفير الظروف الملائمة لنجاحه في مهمته، يكاد يتجاوز خدود الخطأ ليقع ضمن حدود الخطيئة، إذ يجهض إمكان النجاح في وقت لاحق و”يحرق” ورقة الجيش وهي من الأوراق النادرة التي يراهن عليها الحكم (والشعب) لإعادة بناء الدولة وإعادة توحيد الوطن.
وفي ضوء هذا كله نقول: إن عدم التدقيق في طبيعة المهمات التي يكلف بها الجيش، وكذلك في توقيتاتها ومواقعها، قد يلحق به من الأذى أكثر مما يمكنه من تحقيق ما ينفعه – كمؤسسة – أو ينفع الحكم، ناهيك بالبلاد.
ولقد اعترف غير مسؤول، في لقاءات وأحاديث جانبية، إن حملة الدهم التي كلف بها الجيش أمس الأول كانت خطأ، في توقيتها على وجه الخصوص، وهو توقيت جعلها تبدو وكأنها مرتبطة بالغضب الإسرارئيلي نتيجة عملية استهدفت بعض قوات الاحتلال على طريق حدث بيروت.
كذلك اعترف هؤلاء إن الدولة مطالبة بتوفير غطاء سياسي أمتن وغطاء قانوني كامل لأية مهمة تطلب إلى الجيش أن ينفذها، ولا تترك ظهره مكشوفاً للمنتقدين والمعترضين، لاسيما إذا كان منطلق النقد والاعتراض الحرص على الجيش وليس الرغبة في التشهير به…
فليسث كل نقد تهجماً وليس كل اعتراض تعبيراً عن عداء للجيش، كذلك فليس من وطني يقبل على نفسه أن يتهم بالاساءة إلى الجيش ومعنوياته بينما قوات الاحتلال ترزح بكل ثقلها على صدر الوطن، حتى لو جعلته حرقته وغيرته على الوطن يطالب – أحياناً – بما هو فرق الطاقة والإمكان.
وإذا كان الناس قد تجاوزوا مشاعر الخصومة السياسية والايديولوجية تجاه بعضهم البعض، وتجاوزوا مآخذهم على السياسيين والقوى والأحزاب جميعاً توجهوا إليها مطالبين بأن تتوحد في الحركة لمواجهة المحتل، فأحرى بهم أن يزدادوا حرصاً على الجيش، وأن يجمدوا حتى ما كان لهم من مآخذ أو ملاحظات عليه.
وبالمقابل فلسنا نفترض أن الجيش، أي جيش في أي بلد محتل، يمكن أن ينزعج من عميلة أو عمليات فدائية تجري ضد قوات الاحتلال.
نفهم أن تكبل المقتضيات السياسية (والعسكرية) الجيش، في حالات معينة، فتمنع حركته الحرة ضد المحتل، ولكننا لا نظن أن ضابطاً أو جندياً لبنانياً واحداً سيحزن لسقوط جنود الاحتلال صرعى برصاص بعض “الوطنيين المتطرفين”.
أكثر من ذلك: لا نفترض أن أي قائد سياسي حقيقي يمكن أن ينكر الفائدة الكبرى التي تقدمها العمليات ضد قوات الاحتلال لموقعه التفاوضي، هذا مع الفهم الكامل لضرورة أن يتنصل من مسؤولية هذه العمليات وينكر صلته بمنفذيها إن كانت له مثل هذه الصلة ، بل ولضرورة أن يعلن عدم موافقته عليها، إذا لزم الأمر.
والمنطق يقول إن العمليات ضد قوات الاحتلال ستستمر وستتصاعد ما استمر الاحتلال، بل هي ستتزايد وسيتعاظم أثرها بالتأكيد، وستشهد الطريق بين خلدة اللبنانية و”الخالصة” التي صارت – بالقهر – إسرائيلية مرور مزيد من التوابيت، والعلاقة جدلية: بقدر ما يتزايد القهر يتزايد عدد العائدين إلى منطلق العدوان في سيارات اسعاف عسكرية.
وليس معقولاً أن يطالب الجيش اللبناني بحراسة “الخروج على المنطق” ومناقضته.
فالقضية هي في وجود قوات احتلال وليس في وجود من يغامر بحياته لضرب هذه القوات.
ومفهوم أن يكون الوطن (وجيشه) في موضع المغلوب على أمره، في بعض الحالات، ولكن ليسا مفهوماً، أو مقبولاً أن يطلب إلى الوطن – شعباً وجيشاً ودولة – أن يسلم بهذا الموضع وكأنه قدره الأبدي.
والجيش هو أكبر المتضررين من مثل هذا التسليم، إذا ما حصل، ومن أجل جيش يبدأ عهداً جديداً في تاريخ الوطن يتوجب أن يتم التدقيق في استخدام هذا الجيش، مهمة ومواقع وتوقيتاً، بما يحميه ليس من النقد بل مما هو أفدح: من تهمة الضياع أو التحول عن موقعه الطبيعي إلى الموقع الخطأ.
فالوطن هو الأبقى، وخدمته وتأمين مصيره ومستقبل أبنائه هما المعيار لتحديد الصح والغلط.
وبديهي، أخيراً، إن لا جيش إذا ما زال الوطن،
وهذه السطور هي من أجل أن يبقى لنا وطن له جيشه، أما غيرنا فربما أوصلته المزايدة والنفاق الرخيص إلى التسبب في خسارتنا الاثنين معاً، الوطن وجيشه.
فلا الوطن سديم أو صحن طائر يهوم في الفضاء، ولا الجيش “شيء” يبدأ وينتهي بالهندام العسكري والنظام المرصوص،
بل الوطن هو الأرض والناس، حياتهم وآمالهم وطموحاته إلى حياة كريمة ومستقبل أفضل شرطه الأول الوطن السيد الحر، والجيش هو بين أسباب الوصول إلى تلك الطموحات وفي رأس المطالبين بتأمينها وحمايتها الأرض التي تمنحهم الهوية ودفء الانتماء.
وإذا كان الوطن هو الحلم، جمالاً وبهاء وإشراقاً ورونقاً، فالجيش هو بعض الطريق إليه، إلا إذا ضاع أو ضيع فيضيع آنذاك كل شيء، ولا تنفع طبول المزايدة والنفاق في إنقاذ أي شيء.

Exit mobile version