طلال سلمان

على الطريق رابين لا الاتفاق!

انتهى وقت المجاملة الأميركية التي كانت ضرورية لتهدئة المعارضين المحتملين لاتفاق غزة – أريحا، أو ربما لمحاصرتهم، وبدأ “الهجوم” لحصاد نتائج ذلك الاتفاق البائس.
الاتفاق الإسرائيلي، لكنه ضرورة أميركية، ثم إنه انتكاسة عربية خطيرة، فلماذا التردد في “القطاف” خصوصاً وإن الحساب مشترك وعلى قاعدة “و/أو”؟!
وأخطر ما في “الكلام الجديد” للرئيس الأميركي بيل كلينتون، أمس، إنه قال في حضور وعلى مسمع رئيس أكبر دولة عربية، مصر، وأهم استثمار أميركي في المنطقة،
لذا فالتوصيف الذي أطلقه كلينتون على الرئيس المصري حسني مبارك دقيق: إنه ثمين جداً!
ثم إن التوصيف واقعي، فمبارك هو الشريك الضعيف ولكن الضروري والثمين جداً، في “عاصفة الصحراء” كما في مسار المفاوضات العربية – الإسرائيلية، وفي الصومال كما في الاتفاق الإسرائيلي – الفلسطيني.
إنه الغطاء الذي لا بد منه، إنه “المحلل”. إنه “الدليل” و”المسوّق” والمبرّر”، وفي لحظات أخرى الذريعة العربية لأية جريمة أميركية أو حتى إسرائيلية.
ويمكن لكلينتون الذي يدين له معظم حكمام العرب بوجودهم، أن يستوقي على أي اعتراض عربي بالعرب أنفسهم… وهو بالأمس كان يشن “هجومه” على سوريا (ولبنان) وفي يده التوقيع الفلسطيني والمباركة المصرية والتأييد المغربي والتهليل الخليجي.
ويستطيع كلينتون أن يطمئن أن هذه المبايعة العربية لن تتأثر حتى لو تبنى حرفياً كل ما قاله أو يمكن أن يقوله إسحق رابين أو شيمون بيريز.
وهو، بالأمس، قد جهر بأن مستقبل رابين أهم من اتفاق غزة – أريحا، والمهم ضمان استمرار حكومة رابين ولو على حساب الاتفاق،
كذلك فهو قد أعلن أن التطبيع يجب أن يسبق التوقيع في كل الدنيا العربية، وإن أي تقدم في ما تبقى من مسارات التفاوض يرتبط بمصلحة اتفاق غزة – أريحا فإن كان يفيده يكون وإن اشتبه بأنه يضر به صرف النظر عنه.
والاتفاق هو رابين، لكن رابين ليس الاتفاق فقط!
ومصدر القلق يأتي من المعارضة الإسرائيلية وليس من المعارضة العربية،
فليس مصير عرفات هو موضع الاهتمام، بل مصير رابين وقدرته على مواجهة الرأي العام الإسرائيلي، بدءاً بالبرلمان مروراً بتكتل “ليكود” و”حركة شاس” وانتهاء “بحركة السلام الآن” التي استهلكت في تنظيف صورة الديمقراطية الإسرائيلية (لاسيما أيام اجتياح لبنان ومذابح صبرا وشاتيلا) فسحبت من التداول.
“يجب أن يكون هناك وقت يستطيع رابين أن يحدد فيه ما هو موقفه تجاه البرلمان الإسرائيلي… وإضعافه يعيق تحقيق السلام”.
إذن فواجب العرب تصليب موقف رابين وتعزيزه لكي ينتصر على المعارضة الإسرائيلية فيتحقق بذلك “السلام” للراغبين الزاحفين إلى هذا “السلام”.
أما المعارضة العربية فلا مجال لأن تعبر عن نفسها أو تعطى هامشاً من حرية الحركة لأنها لا تتمتع بالمواصفات الديمقراطية التي تتحلى بها المعارضة الإسرائيلية، ثم إنها تتجاوز شخص عرفات على رابين بل وتصل إلى مناقشة السياسة الأميركية للمنطقة وتكاد تملي على كلينتون ما هو الأنفاع لمصالحه الهائلة فيها؟!
وإذا كانت دمشق قد رفضت منطق رابين، وأصرت على “إحراجه”، ولم تقبل عروضه السخية التي حملها إليها دنيس روس، فلتتحمل النتائج: لا موعد لجولة وارن كريستوفر العتيدة وبالتالي فلا موعد لاستئناف المفاوضات على المسارين السوري واللبناني.
حجة كلينتون أن رابين يجب أن يمنح الوقت الكافي لكي يهضم ومعه الرأي العام الإسرائيلي اتفاق غزة – أريحا!
لكأنما ذلك الاتفاق المعروض منذ 1977، وفي أجواء زيارة السادات الشهيرة لفلسطين المحتلة، تنازل إسرائيلي فعلاً، بينما لا يكابر أحد من موقعيه الفلسطينيين في الاعتراف بأنه تنازل فلسطيني تاريخي وإن برروه بأنه لا بد منه ولا بديل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي القدير!
وبإمكان كلينتون أن يذهب في “التحدي” إلى مداه، إذ إنه “ينطق” باسم الأكثرية العربية ويعبر عما في “ضميرها” ويكاد يدعي إنه إنما يحقق “الإرادة العربية” الحرة في “السلام الإسرائيلي”،
بل في إمكان إسحق رابين نفسه أن يدعي مثل هذه الأوصاف لنفسه وهو المنتقل من أحضان ملك العربي، إلى ملك آخر ومن أحضان رئيس عربي إلى أحضان رئيس آخر (ولو بلا دولة!)
لا مشكلة، إذن بعد بين إسرائيل والعرب،
المشكلة بين أقلية عربية معترضة وأكثرية عربية ساحقة تعبر ليس فقط عن قبولها بل عن امتنانها إناء الليل وأطراف النهار!
برغم ذلك لم يتعهد كلينتون لممثل أكثرية هذه الأكثرية، أي للرئيس المصري حسني مبارك باستمرار المساعدات الأميركية التي تقيم أود النظام في مصر.
أقصى ما وعد به ضيفه الذي جاءه بالولاية الثالثة مستنجداً ومستغيثاً أن تكون هذه المساعدات “موضع نقاش”!
ولا عجب طالما أن أية مساعدات عربية لطرف عربي لا بد أن تأتي بعد إذن من كلينتون وموافقة من إسحق رابين،
وبالأمس كادت واشنطن تمن على دمشق بأنها قد “سمحت بالإفراج عن ثلاث طائرات قديمة من طراز بوينغ كانت حكومة الكويت قد تبرعت بها لسوريا ثم احتجزها الأميركيون في انتظار أن يبرئ السوريون أنفسهم من تهمة الإرهاب!
في أي حال فإن المتضرر الأول من مثل هذا الموقف الأميركي – الإسرائيلي هو “البطل” الفلسطيني لاتفاق غزة – أريحا،
فالذريعة التي تستخدم اليوم ضد المعارضة العربية، أي ضرورة تغليب رابين على معارضته الإسرائيلية، ستكون مصدر ابتزاز يومي لياسر عرفات ومن معه: كلما ألح على تنفيذ بند من بنود الاتفاق الملتبس والمبهم والغامض وحمّال الأوجه سيأتيه الرد، بلطف، في البداية، ثم بشيء من الحدة، ثم بشيء من الزجر: إهدأ، إنك تهدد وضع رابين!
وهل يريد العرب أشرف من مهمة حماية رابين؟!
وقبل سنوات قليلة كان رابين “مُحطم العظام العربية”، أما اليوم فهو “البطل” الذي سيأتي على يديه تحرير فلسطين.. من العرب (ومن الفلسطينيين؟!)، وتحرير العرب من فلسطين ومن كل تاريخهم الثقيل والمنهك!

Exit mobile version