طلال سلمان

على الطريق رئيس جديد للماضي المُرتجى!

بينما تتغير صورة العالم بوتيرة متسارعة نكاد نعجز عن اللحاق بها وتمثل ملامح مستقبل الإنسان في هذا الكون، أرضاً وفضاء، يبدو لبنان وكأنه يبحث عن صورة مستقبله في ماضيهز
العالم يتغير مندفعاً إلى الأمام، إلى آفاق مذهلة تتجاوز باحتمالاتها الواعدة كل ما عرفناه وألفناه في عوالم الأمس، ولبنان يعجز عن تجاوز حاضره المفجع إلا بالنكوص على عقبيه والتراجع إلى الخلف معيداً الاعتبارإلى كل من وما كان فيه وعليه عشية الاستقلال أو بعده بقليل.
فالوعد في لبنان ينتمي إلى الماضي وينطلق منه ويتمحور حوله ويحمل ملامحه.
لكأنما الوعود والتمنيات وحتى الأحلام، في لبنان، من نتاج الماضي لأن حاضره عاقر، أو نتمنى أن يكون كذلك.
الأحلام في بلاد الناس تستولد المستقبل، وفي بلادنا وحده الماضي قادر على تجاوز كابوس الحاضر واستيلاد الحلم؟!
وأي ماض هو ذاك المستقبل المرتجى والمنشود؟!
إنه ذلك الزمن المتجمد الذي بدا دائماً وكأن لا سبيل للخروج منه إلا بالحرب، ولكن الحرب ذاتها كانت تردنا دائماً إليه وتجمدنا فيه!
لكأنما ممنوع علينا، على جمهور اللبنانيين بملايينهم الثلاثة، أن يغادروا لحظة معينة من تاريخهم لأن خروجهم منها يلغي التاريخ والكيان ونظامه الفريد!
ولنأخذ المثال الأقرب: معركة رئاسة الجمهورية بكل اللغط الدائر حولها والغبار المثارن بالقصد، حتى لا يتطاول البصر أو تتطاول البصيرة فتدرك أو تتخيل النتائج المحتملة لهذه المعركة المصيرية والحاسمة والمفصلية، كما تسمى…
توقف لحظة عند أسماء المرشحين لرئاسة الجمهورية في نهاية الثمانينات ودقق فيها قليلاً، فماذا تجد؟!
لا يحتاج الأمر إلى عبقرية خاصة ليكتشف المرء إن الأكثر جدية بين المرشحين والأبرز حضوراً والأوفى “شرعية”، هم الذين يشكلون بهذه النسبة أو تلك، امتداداً للذين حكموا لبنان خلال عهد الانتداب وبدايات العهد الاستقلالي في الأربعينات!
حتى “الدماء الجديدة” من المرشحين يجهدون أنفسهم ليبدوا صورة طبق الأصل عن القدامى، يتحدثون لغتهم، يستعيرون تعبيراتهم المبهمة حمالة الأوجه، يزيدون في أعمارهم طلباً للثقة في أنهم ليسوا من جيل صناع الحرب المفتوحة وأبطالها، ويؤكدون لك بكل وسيلة ممكنة إنهم “اشتغلوها جيداً” مع الخارج بحيث اكتسبوا الحصانة والمناعة ضد قوى التأثير في الداخل!
برغم هذا كله، يجد هؤلاء ما يقولونه في التغيير وضروراته! يقولون، مثلاً، إن الثورة في لبنان مستحيلة، وكذا الانقلاب وصولاً إلى الاصلاح الدستوري والسياسي!
فلبنان بلد لا يستقيم حكمه (وكيانه) إلا بالاعتدال، وكل تغيير تطرف، والتطرف خروج على النظام، والنظام ضمانة الكيان،
والحل؟!
الحل في أن يعتدل التغييريون فيصيروا تقليديين أو من مقلدي التقليديين والمؤمنين ببعد نظرهم،
الحل في أن يبقى الحال على ما هو عليه، فلا يكون صلاح ولا إصلاح، لأن للاصلاح في لبنان سمة طائفية، بينما لا ينفع الوحدة الوطنية ولا يؤكدها إلا الجمود المطلق، جمود الزمن وتجمد البشر والخروج من هذا العصر المذهل باحتمالات التغيير المفتوحة فيه على المطلق!
… هذا برغم اعتراف هؤلاء جميعاً، مع تفاوت في الدرجة، بأن الماضي المرتجى كمستقبل كان حافلاً بالخطايا والأخطاء، وبأن رموزه كانوا أضعف قدرة وأهليه من أن يبنوا وطناً أو دولة أو حتى مزرعة حسنة الإدارة،
وبرغم اعترافهم الصريح بأن أهل الماضي هم الذين اصطنعوا – بممارساتهم – اسباب الحرب التي التهمت الحاضر والمستقبل، وهم الذين استبقوا الطائفية لتبقيهم في مواقعهم فألغوا الإنسان (المواطن) والدولة كمشروع وطن،
بعد هذه المطالعات الصريحة يدعونك إلى إعادة انتخاب الماضي وأهله لأن ارتكابات أبنائهم الشرعيين وغير الشرعيين أخطر بكثير مما يؤخذ عليهم هم، وإن خيارك بين الجريمة والخطأ فلا بد من أن تغفر الجريمة حتى لا تستسلم للخطأ القاتل!
وفي حين ينتهي، أو يكاد، زمن الحروب الصغيرة في العالم من حولنا، وتتوافر فرص جدية للافتراض إن “حرب لبنان” – العالمية ككل شيء لبناني – في طريقها لأن تنتهي هي الأخرى، فإن عصر السلام لا يبدو قريب المنال، ربما لأن شروطه لم تتوافر تماماً، وربما لأن المنتفعين بحرب الحاضر ينتظرون درع التثبيت وبطاقة الانتماء إلى أهل الماضي ليصيروا صناع المستقبل.
إن المرشحين لا يتعبون من القول: لسنا من بين هؤلاء ولسنا مثلهم،
لكن صناع الحرب لا يتعبون من القول: لقد صرنا من أولئك ونحن مستعدون لأن نعتدل “فنصير مثلهم! وكلهم بدا متطرفاً مثلنا ثم اعتدل في الحكم” وبالحكم ومن أجل الحكم، فأعطونا حكماً وخذوا اعتدالاً غير محدود!
ويوماً بعد يوم تضمحل الفروق وتتزايد وجوه الشبه، وتقترب لحظة التجمد،
وفي انتظار تلك اللحظة الموعودة ستتأخرولادة “العهد الجديد”، وسيتأخر وصول السلام المرتجى، سلام الغد الذي غربت شمسه قبل أن يجيء!

Exit mobile version