طلال سلمان

على الطريق حروب السلام الإسرائيلي!

لم تكن المنطقة العربية في “حالة حرب” شبه كاملة كما هي اليوم وهي تستعد لعصر “السلام” الآتي باسم واشنطن،
فرائحة البارود يعبق بها الهواء على امتداد الأرض العربية بين أقصى المغرب وشرق المشرق، في حين يمتد الوشم القاني فوق جسد فلسطين من غزة إلى القدس مروراً بكل الضفة الغربية.
وفي حين يذهب معظم العرب إلى الحرب الأهلية ويتفجر الاقتتال الداخلي بينهم وبين حكوماتهم، تتصرف إسرائيل وكأنها ذاهبة إلى “الحرب الأخيرة” معهم مجتمعين، انطلاقاً من فلسطين المحتلة – بالرصاص الحي – وصولاً إلى آخر عاصمة عربية بأعلى درجات الإرهاب السياسي عبر التلويح بعصا التحالف الأميركي – الإسرائيلي.
لكأنما إسرائيل تريد “سلاماً منفصلاً” مع كل عربي على حدة، تحت التهديد بحرب شاملة عليهم جميعاً.
إنها ترفض التسوية الشاملة، وتفرض تفتيت الأمة الواحدة، والقضية الواحدة، بل وحتى الشعب الواحد، مقدمة لكل طرف عربي خياراً أوحد: صلح منفرد مع إسرائيل على حساب حرب مفتوحة (ولو كامنة أو مستترة أو مرجأة) مع العرب مجتمعين.
وهي تضرب في فلسطين وعينها على بقية العرب، تستقرئ إلى أي حد ما زالوا يعتبرون أنفسهم معنيين بما يجري “لأشقائهم” القدامى الرازحين في إغلال الاحتلال؟!
بل إنها تضرب الفلسطينيين بالسيف الأميركي مباشرة، وتستدرج عروض الصلح العربية إلى عنوانها في واشنطن.
فالإرهاب الإسرائيلي ضد أبطال الانتفاضة، بل ضد المواطن الفلسطيني، طفلاً كان أم فتى أم شيخاً طاعناً في السن، قد بلغ ذروته بينما إسحق رابين يأخذ من بيل كلينتون ما لم يسبق لرئيس أميركي إن أعطاه لإسرائيل.
ورابين يقود العرب الآن إلى طاولة المفاوضات بهراوة “الراعي” الأميركي الذي كان تعهد بدور “الشريك الكامل” و”قوة الدفع” و”الوسيط النزيه” والقيم على تنفيذ قرارات الشرعية الدولية!
فبيل كلينتون هو الآن “شريك كامل” فعلاً، ولكن لإسحق رابين وحده، والدور الأميركي يشكل فعلاً “قوة دفع” ولكن للطرف العربي كي يسلم بالشروط الإسرائيلية.
وما لا يستطيع العرب تلبيته من هذه الشروط تكفلت الولايات المتحدة الأميركية بأن تتولاه مباشرة،
لقد ذهب إسحق رابين إلى واشنطن رئيساً لحكومة تقول إنها تسعى إلى “السلام”، ولكنه قطع زيارته وعاد منها “جنرالاً” وقائد جيش احتلال قصر أعوانه في تحويل المواجهة مع ضاربي الحجارة إلى حرب من طرف واحد ضد شعب أعزل ومقهور بذل الاحتلال والعجز العربي.
لكنه، وقبل أن يعود، أتم التنسيق مع بيل كلينتون: فأحدهما يتظاهر بتقديم عرض “مغر” للسوري ليستنفر عليه الفلسطيني، والثاني يلوح بعرض “ما” للفلسطيني كي يسحبه بعيداً عن السوري ويستعديه عليه، وكلاهما يتجاهلان الطرف اللبناني ويسقطانه من أي حساب ليهزا أساس الثقة بينه وبين شريكيه، في مأساة المفاوضات.
أكثر من ذلك.. في غمرة هذه المناورات السياسية والمعارك الدموية، يتحرك الأوروبيون – بعد طول غياب – ليعيدوا مراودة لبنان ومحاولة إغوائه بالانضمام إلى المفاوضات المتعددة الأطراف، مسقطين كل الاعتبارات التي أملت على لبنان عدم الاشتراك والتي لم يتغير فيها حرب واحد.
ففي المعلومات أن حركة بعض الدبلوماسيين الأوروبيين الذين أموا العاصمة اللبنانية خلال الأيام القليلة الماضية، كانت تستهدف – مرة أخرى – الإلحاح على لبنان كي يشارك في “المتعددة”، بغض النظر عن بيؤس “النتائج” التي جمدت المفاوضات الثنائية حتى اليوم، أو كأنما الجولة التاسعة التي ستدور بعد شهر ستحقق أهدافها جميعاً فلا يبقى غير تكريس موجبات “السلام” التفصيلية في المفاوضات المتعددة الأطراف.
كأن المعادلة قد استقرت تماماً: حرب بل حروب عربية – عربية مقابل “سلام” إسرائيلي لكل طرف عربي، يجعله يتوغل بعيداً في حربه، المفتوحة ضد أهله، أي ضد ذاته.
القدس والجامع
مرة واحدة أتاح لي حظي أن “أرى” القدس وأن “أعبر” أجواءها وقاعة “العابرين” في مطارها الصغير، من دون أن يتسنى لي أن املأ صدري بعبق تاريخها المقدس، أو املأ عيني بصورتها – الأيقونة.
كان ذلك قبل ثلاثين سنة، تقريباً، ومع انعقاد أول مجلس وطني فلسطيني في القدس أثر قيام منظمة التحرير (العام 1964).
لكنني منعت والزميل الشهيد غسان كنفاني، (وكان تصادف أن سافرنا من بيروت معاً) من دخول القدس، ومن تلبية دعوة المنظمة ورئيسها المغفور له أحمد الشقيري، للمشاركة : غسان كعضو في المجلس وأنا كصحافي – ضيف.
كان للمنع ذريعة إننا “معاديان للنظام الأردني”، إذ كانت القدس وسائر فلسطين غير المحتل آنذاك من “أعمال” المملكة الأردنية الهاشمية.
ثم جاء الاحتلال الإسرائيلي العام 1967 فصار المنع المؤقت دائماً وغابت القدس عن العين وإن ظلت حيث كانت في القلب والوجدان.
… يومها تأملت، من الجو، وبقدر ما تتيح دورة الطائرة – الداكوتا – المدينة التي احتضنت الرسالات السماوية جميعاً،
ولقد كانت ذاكرتي تسبق عيني في التعرف إلى الأماكن والوقائع التي خلدتها في الوجدان الإنساني.
أمس، وأنا أتأمل منظر الصلاة الحاشدة للجمعة الأخيرة من رمضان في أفياء المسجد الأقصى، دهمني الحزن لأنني لم أدخله، لكنني سرعان ما عشت لحظة فرح نادرة: لقد عاد المسجد جامعاً، كما ينبغي أن يكون، وكما أراد له من بنى الجامع الأول أن يكون.
وفي الفارق بين “الجامع” وبين “المسجد”، يكمن الكثير من أسباب التراجع والذل والانحطاط: فيوم صادر الحاكم الجامع وجعله مجرد مسجد للصلاة يفصل من يدخله عن الشأن العام ابتدأ التراجع الشامل، وشحب الإسلام وإن تكاثر عدد المسلمين الذين سرعان ما توزعوا شيعاً وفرقاً وأحزاباً مقتتلة ليس آخرها من يسميهم الغرب، ونردد معه الآن “حزب الإسلاميين”.
أما الغسلام فما زال أكبر من أن يكون حزباً،
وما زال ينتظر “الجامع” ليعود ثورة كما أريد له أن يكون.

Exit mobile version