طلال سلمان

على الطريق حتى يكون لقاء الحكومتين مثمراً

لولا شيء من الخجل “الوطني” لاعتبرت زيارة “الحكومة السورية” إلى لبنان حدثاً تاريخياً، إذ تكاد تكون فريدة في بابها، برغم كل الخطابات والتصريحات واللقاءات “الرسمية” وبينها عشرات القمم بين الرؤساء اللبنانيين المتعاقبين وبين الرئيس السوري الاستثنائي حافغظ الأسد.
ويمكن القول، بغير تحفظ، إنه لولا شخصية حافظ الأسد، ولولا حنكته، ولولا فهمه العميق للبنان الذي شكل معضلة للحاكم السوري على امتداد ربن قرن أو يزيد (منذ الاستقلال في أواسط الأربعينيات وحتى بداية السبعينات) لما أمكن بناء علاقة جدية تتحمل أو تفرض مثل هذه الزيارة غير المسبوقة لرئيس الحكومة السورية مصحوباً بأحد عشر من الوزراء.
ونتيجة لفهم حافظ الأسد العميق للبنان ولنظامه ولدوره، في ظل ما كشفته الحرب – الدهر فيه، بكل أطوارها وبكل ما حفلت به من مداخلات دولية فرضها التشابك في المصالح والتصادم بين القوى المتخاصمة والمتعارضة، أمكن تخطي حواجز العواطف والأحقاد، بالحساسيات فيها والاندفاعات الانتهازية، للمباشرة في تأسيس علاقات عملية ومؤهلة للدوام لأول مرة في التاريخ الحديث للبلدين – التوأمين.
إن ازدحام السير على طريق دمشق، بالسيارات ذات اللوحات الحكومية السوداء، النيابية بلوحاتها الزرقاء، لم يعكس ذاته على الحياة اليومية للاشقاء اللبنانيين والسوريين… وبقي التعامل “السياسي” بغير جذور اقتصادية واجتماعية وعسكرية وأمنية الخ.
وبالتالي فلقد استمرت المفارقة فاقعة: اللقاءات السياسية على مدار الساعة والمصالح الحيوية للشعبين والدولتين معلقة في انتظار… القدر!
وليس من قبيل التندر القول بأن العلاقات كانت “مميزة” بمعنى أنها كانت “فالتة” و”سائبة” وغير محددة، بل و”تمنع” قوى “مجهولة” تحديدها بحيث يلمس خيرها أصحاب المصلحة فيها، أي كل اللبنانيين وكل السوريين.
حتى بعد توقيع “معاهدة الأخوة والتعاون والتنسيق” لم يتبدل الوضع كثيراً، واستمرت مشاريع الاتفاقات حبراً على ورق، أو في أحسن الحالات تعبيرأً عن نوايا طيبة لم تترجم إلى مؤسسات وإلى قرارات وإلى إجراءات ميدانية… واستمر “التهريب” هو “القاعدة” في العلاقات الاقتصادية وسط أجواء من الريب والشكوك والاتهامات الضمنية للسوريين باستغلال مركز قوتهم حيال لبنان الضعيف.
إن أطول مسافة بين عاصمتين متجاورتين إلى حد التكامل والتلاصق، هي المسافة بين بيروت ودمشق!
وأعقد العلاقات وأكثرها غموضاً وإلغازاً وإبهاماً هي العلاقات “الرسمية” بين “الشعب الواحد في دولتين” هما الجمهورية اللبنانية والجمهورية العربية السورية.
لكأنه محظور، أو كان محظوراً، أن تقوم بين البلدين – التوأمين علاقات طبيعية، سواء على المستوى الرسمي أو حتى على المستوى الشعبي… وليس من قبيل التشكيك أو الطعن بسلامة توجه “أبطال الاستقلال” أن يقال أن العلاقات بين البلدين في ظل الانتداب الفرنسي كانت أوثق وأرحب وأبسط منها في ظل استقلال الدولتين!
كانت ثمة “سياسة” تغذي في لبنان عقدة التفوق بدعوى أنه “أقرب إلى الغرب”، و”أقرب إلى الديمقراطية” و”أقرب إلى الازدهار”، و”أقرب إلى أغنياء العرب”، وإن “السوري” خصمه ومنافسه والطامع فيه بينما هو الأفقر والأكثر تخلفاً في السياسة كما في الاقتصاد والأبعد منه عن الحضارة والعصر!
وكانت ثمة “سياسة” تغذي في سوريا الارتياب في اللبناني وفي نظامه وأهل الحكم فيه عموماً، وتصورهم متأمرين مع الغرب ضدها، أو مع خصومها من العرب، أو حماة ومستضيفين للمتآمرين على نظامها من “السوريين البيض” أو من “الانقلابيين المحترفين” سواء باسم اختلاف العقيدة أو باسم اختلاف المصالح.
وهكذا وعلى امتداد عقود من الزمن الاستقلالي كانت بيروت تزداد بعداً عن دمشق، وكان السوريون يستشعرون قدراً متعاظماً من الغربة عن أشقائهم وأنسبائهم وأصهارهم اللبنانيين، أو بالذات عن أولئك السوريين الذين “تلبننوا” ثم اندفعوا يزايدون في إظهار العداء لسوريا توكيداً لعراقتهم اللبنانية!
ثم جاءت الحرب الأهلية في لبنان بكل أطوارها لتطوي تاريخاً وتحدد نقطة بداية لتاريخ جديد على مختلف الصعد، وبالذات على صعيد العلاقات الثنائية بين البلدين.
ولولا شخصية حافظ الاسد لما كان ثمة فرصة لمثل هذا “الانقلاب” في العلاقات من حافة العداء إلى حافة الفدرالية أو الكونفدرالية أو غيرها من أشكال الصياغات الوحدوية.
وهي فرصة “تاريخية” يحتاجها لبنان كضرورة حيوية لبقائه وعودته إلى ذاته بقدر ما تحتاجها سوريا لتعزيز دورها القومي وتأمين نهوضها الاقتصادي.
لم يعد لبنان أسطوري الغنى ونموذجاً للازدهار والتقدم كنظام عصري للخدمات جميعاً، بمافيها “الخدمات السياسية”، ولم يعد عقدة المواصلات والاتصال في المنطقة، بل هو أصبح في حاجة ماسة إلى مختلف أشكال المساعدات والهبات والصدقات وحتى التبرعات الشخصية!
والحقيقة إن ثمة إرثاً ثقيلاً من الريب والمنافسات غير المشروعة والتضارب في المصالح بين جماعات النافذين كان يحكم العلاقات بين الدولتين ويجعلها تهوم دائماً في مساحة من الفراغ، بينما الخطابات الطنانة والتصريحات الرنانة تكاد تبني وحدة وهمية في مساحة أخرى من الفراغ ذاته!
كان أي حديث في المصالح يصور على أنه نوع من الفرض السوري أو اعتداء على السيادة اللبنانية أو على الكرامة أو على الاستقلال والعنفوان الخ.
فإذا ما كان الحاكم اللبناني في دمشق فإنه يبادر إلى المطالبة بما يعرف أنه سيتهرب من تطبيقه في لبنان، أما بدافع الخوف من مؤسسة المصالح الغربية التي تبرز ذاتها بالحساسيات الطائفية، وأما بدافع الخوف من الذوبان في “المطامع السورية”!
وكان الأخذ بالاقتصاد الموجه في سوريا ذريعة للقطيعة التي هرب إليها رموز الاقتصاد الحر في لبنان، ثم اتخذوه متراساً لمنع أي بحث موضوعي في ما يمكن وما لا يمكن التفاهم عليه أو الأخذ به.
وكان بين المفارقات الملفتة أن تكون سوريا قد بلغت ما بلغته من نفوذ في لبنان، حتى ليقال أن النظام اللبناني صار عند حافظ الأسد، بحيث يقدر أن يعطي منه وأن يمنع، ثم تبقى العلاقات التي تفيد الشعبين مجمدة عند حواجز الحدود تحت الشمس الحارقة تماماً كالمواطنين البائسين الراغبين في التزاور سواء لأسباب عاطفية أم عملية.
كذلك كان ملفتاً أن تكون للنافذين في لبنان وحدهم تسهيلات المرور على “الخط العسكري” السوري، في حين تبقى العوازل بين الشعبين على حالها، فلا هؤلاء الذين صاروا حكاماً في ظل النفوذ السوري يرفعونها، ولا هم يعملون، لأن يصبح الخط الاقتصادي – الاجتماعي – الثقافي – الأمني هو مصدر الرعاية والسهولة والراحة وتوكيد الأخوة.
في أي حال، فما يتمناه اللبنانيون ألا تنتهي زيارة رئيس الحكومة السورية محمود الزعبي، إلا وقد بدأت مرحلة جديدة وجدية في العلاقات بين هذين القطرين المهددين الآن بالمزيد من المخاطر والتحديات القاسية،
لقد أحبطت هذه الزيارة الاستثنائية بغيض من شكليات الحفاوة و”زمامير” الترحيب وتدابير الحماسة، وكل ذلك خارج الموضوع، فالناس ستسال عن ثمارها المرجوة سواء على صعيد العمل المشترك في المجالات الصحية وانتقال الأشخاص والبضائع وتنظيم التصدير والاستيراد والتعاون الجمركي وكل ما يؤدي إلى نوع من التكامل الاقتصادي.
كذلك فالناس تريد أن تعرف لماذا لا تظهر نتائج عملية لتلك النواة العتيدة للسوق المشتركة اللبنانية – السورية، وبينها قيام منطقة حرة لتسويق المنتجات المشتركة.
وبديهي أن الحاجة اليوم إلى توطيد التعاون وجني ثماره أكثر من ملحة، بل هي تكاد توازي الواجب القومي، إذ أن مثل هذا التعاون يعزز الصمود الضروري في مواجهة مشروع التحالف الذي سيؤدي إليه الاتفاق الإسرائيلي – الفلسطيني.
فلا بد من تحصين هذه الجبهة الأخيرة في مواجهة المحاولات المستمرة والهجمات المتزايدة للعدو الإسرائيلي من أجل اجتياح لبنان وسوريا ومن خلفهما الوطن العربي برمته.
مستدركات…
إدوار سعيد
الحاضر بغيابه
*تركز الاهتمام على من حضر تلك الاحتفال الضخم في البيت الأبيض “ليشهد” على “المصافحة التاريخية” والتوقيع على الجغرافيا الجديدة لفلسطين ووطنها العربي الكبير.
وفي ظل الانبهار لم ينتبه الناس للذين غابوا، وكان غيابهم أقوى دلالة وأعمق معنى من الحضور،
بين أولئك الغائبين الكبار كان ادوار سعيد، المثقف والمفكر والكاتب الفلسطيني (الأميركي) والأستاذ المعروف في غير جامعة أميركية.
وبرغم الإلحاح عليه، وإبلاغه أن “الرئيس شخصياً يتمنى عليه الحضور”، وبرغم تكرار الاتصال، فقد بقي على موقفه الذي برره بالقول لمن اتصل به من مكتب الرئيس الأميركي بيل كلينتون.
“- قل للسيد الرئيس إنني لا أجد لي ولا لشعبي الفلسطيني مكاناً في هذا الاحتفال.
“وقل له أيضاً أن الدور الذي لعبته الولايات المتحدة الأميركية يتنافى مع الشعارات التي طالما حملتها منادية عبرها بقيم الحرية وحقوق الإنسان..”.
تحية لادوار سعيد الذي لم تمنعه الجنسية الأميركية التي اكتسبها نتيجة تشريده من وطنه من إعلان رأيه وعن حفظ الحق التاريخي له ولشعبه في أرضه، بينما يتزايد يومياً عدد المتنازلين حتى عن سمرة بشرتهم العربية من أجل نظرة رضا أميركية!
النموج الأميركي للسلام
وحكمة هنري كيسنجر
*من “رودايلاند” تكتب إلينا زميلتنا كارول داغر التي تتابع دورة تدريبية في بعض المؤسسات الأميركية عن “الحدث” التاريخي كما قدمته الآلة الجهنمية للأعلام الأميركي إلى “الرعايا الأميركيين”:
تقول كارول في رسالة آخر وصولها بعض الصعوبات الفنية:
“بدأ احتفال التوقيع وكأنه إنجاز أميركي، لقد قطفت إدارة كلينتون ثمار الشجرة التي زرعها غيرها، وعندما ردد ياسر عرفات شكره ثلاثاً لهذه الإدارة فعزز على وجه كلينتون مشاعر النشوة، اكتسحت المرارة وجه الرئيس السابق جورج بوش ووزير خارجيته جيمس بيكر الذي كان مقعده في الخلف بعيداً عن عدسات التلفزيون.
“… بين الحضور كان ثمة اثنان لقيا اهتماماً إعلامياً خاصاً: أولهما حاكم ولاية “رود ايلاند”، بروس سندلن، وهو يهودي الأصل، ورئيس بلدية “سنترال فولز” الصغيرة “المايور” طوماس لازيه، وهو من أصل سوري – لبناني. ولقد قدمهما الأعلام وكأنهما يجسدان معاً خير صورة للسلام المرتقب وللتعايش بين اليهود والعرب. وعبر سنولن عن المعنى نفسه بقوله: “ها نحن هنا، أنا الحاكم اليهودي الأصل، إلى جانب “المايور” العربي الأصل، ونحن انتخبنا في الولايات المتحدة ذات الطابع الأبرز. وهذا يعني أن التجمعات والطوائف مهما تنوعت بإمكانها أن تتعايش”. أما لازيه فقد عبر عن “فخره” في المشاركة “في هذا الحدث التاريخي”!
“وقد حضر حفل التوقيع 75 شخصية يهودية – أميركية و75 شخصية عربية – أميركية… وحظوا بمعاملة خاصة إذ استقبلهم الرئيس كلينتون ونائبه آل غور ووزير الخارجية وارن كريستوفر ودنيس روس وادوار دجيرجيان، “لتبادل الرأي”!!
“كذلك أقيمت حفلة كبرى مساء الاثنين رعتها سوية “المنظمة الدولية – العربية -الأميركية” و”المؤتمر الأميركي – اليهودي”، من تنظيم مؤسسة “نيشما” اليهودية، حضرها 300 شخصية تمثل المجموعتين العربية واليهودية من أجل دعم الاتفاق الإسرائيلي – الفلسطيني.
“… من أطراف التعليقات على هذا الاتفاق، ما ورد في مقابلة تلفزيونية مع جاد غسحق، وهو من المثقفين الفلسطينيين المعروفين ومن المتعاونين مع اللجان المهتمة بشؤون الماء والاقتصاد والبيئة والاقتصاد، في المفاوضات… قال جاد إسحق: “يجب إعطاء جائزة نوبل للإبهام للمفاوضين… يا إلهي! لقد تركوا لنا كل الأمور عالقة، في حين أعلنوا حل المسائل الأساسية في أقصر وقت ممكن”!!
“… وحرص الأعلام الأميركي على تقديم الاتفاق على أنه “كامب ديفيد – 2″، وضمن هذا السياق كان التركيز على السيدة جيهان السادات واستضافتها في “السي. ان. ان” لتقول إن زوجها كان الأسبق والأشجع…
“… أما هنري كيسنجر، الرجل الذي دمغ خريطة الشرق الأوسط الجيو سياسية منذ السبعينات، فقد أوجز الخاتمة بكلمات فاقعة الدلالات، قال: “لولا أن منظمة التحرير الفلسطينية قد بلغت أضعف ما يمكن أن تصل إليه لما كان إنجاز هذا الحدث ممكناً اليوم”!!

Exit mobile version