طلال سلمان

على الطريق حتى يكون لبنان المفاوض بقوة لبنان الصمود

… وبين “خلدة” اللبنانية و”الخالصة” التي صارت – بالقهر – كريات شمونه، ينتظم حكام العرب، بمواقفهم المتباينة، في طابور واحد منتظرين نتائج المفاوضات باهتمام بالغ ليرتبوا في ضوئها أوضاعهم وحسابات المستقبل.
وبالمقابل ، ينطوي المواطن العربي، على امتداد الأرض العربية خارج لبنان، على هم عظيم وقلق ممض على أخوته في لبنان، أساساً، وفي فلسطين، وفي سوريا وفي الأردن وصولاً إلى مصيره الشخصي، لأي قطر انتمى.
ومن الضروري أن يعرف المفاوض اللبناني إن “قضية لبنان”، وبمعزل عن المواقف الرسمية المعلنة أو المضمرة للحكومات العربية، قد دخلت في كل بيت عربي بين المغرب واليمن، وإن للبناني – عموماً – مكانة ممتازة في قلوب العرب لم يسبق له إن احتلها في أي يوم.
إن اللبناني، اليوم، ينافس الفلسطيني، وربما تقدم عليه في ضمير العرب وفي عواطفهم، إذ يتمتع بعطف الضحية وتقدير المدافع الصامد باسم الأمة جميعاً ونيابة عنها.
وسمعة اللبناني الصامد، الباذل نفسه وروحه ودمه وماله، المضحي بهناءة عيشه، قد غطت على صورة اللبناني الآخر، الذي وصم بالتعامل مع العدو الإسرائيلي، والذي يعرف العرب إنه يمثل أقلية الأقلية، وكذلك غيبت صورة اللبناني “الشاطر” ، رجل العلاقات العامة والسمسرة والفهلوة واستغفال السذج من أغنياء العرب.
لقد اكتسب اسم لبنان في دنيا العرب سمعة نضالية عظيمة، وأضفيت علىشعبه هالة المقاتل العنيد المدافع عما يؤمن به (وهذا ينطبق إلى حد كبيرعلى فريقي الصراع الداخلي)، واختفى الكثير من الأوصاف والنعوت التي كان يجلبها للبنان مسلك حكوماته المتسكنة المستضعفة والهاربة من أي التزام وبأي قضية خوفاً على “وضع لبنان الخاص”، من التمزق والانهيار.
وبقدر ما يقر العرب بأن لبنان قد حمل أو تحمل أكثر مما يطيق، وإنه دفع ضريبة عروبته غالية وبالدم، فإنهم ينزلونه من نفوسهم منزلة خاصة ويستشعرون إزاءه مرارة تقصير حكوماتهم وتخليها عنه، وهو تخل مماثل في نظرهم لجرم التخلي عن المقاومة الفلسطينية وقضيتها وإذا ما جاءت ساعة الحساب – ذام يوم – فإن الحساب سيطال الجريمتين معاً والمدانين بالتقصير والتخلي بغير استثناء.
في ضوء هذه النظرة الخاصة للبنان ما بعد الاحتلال الإسرائيلي يتعاطى العرب مع لبنان المفاوض مشفقين عليه وعلى أنفسهم من أن تفجعهم نتائج المفاوضات في هذا الـ “بنيامين” أو “الابن الشاطر” الذي تكشف فجأة، وفي لحظة اظلام، عن فارس نبيل يلخص في نفسه الكثير الكثير من قيمهم والطموحات المهددة بالاندثار.
إن صمود بيروت على وجه الخصوص، ووداع لبنان للمقاومة الفلسطينية، وقوة الاحتمال التي أظهرها اللبنانيون عموماً، مضافة إلى رصيد الجنوب العظيم على امتداد أربع عشرة سنة أو يزيد، كل ذلك لم يذهب هدراً بل هو الآن يهدر بين جنبات الصدور وفي شوارع العديد من العواصم العربية، وسيترك بصماته بالتأكيد على أي تغيير يقع (على مستوى النظام) في أي قطر عربي، ربما بأكثر ما فعلته نكبة فلسطين العام 1948.
ولأن المستقبل العربي سيكون “لبنانياً” بهذه النسبة أو تلك، و”فلسطينياً” بنسبة أخرى، فإن العرب عموماً معنيون بمفاوضات خلدة – الخالصة، وحريصون على أن تتسق نتائجها مع تضحيات لبنان ونهر الدماء الغزير الذي غطى أرضه لسنوات.
ومن هذا المواقع فإن لبنان يستطيع أن يطلب من حكام العرب أكثر مما أعطوه أو وعدوا بإعطائه، مستقوياً عليهم بشعوبهم أولاً وعاطفتها الجارفة حياله، ووعيها الكامل لتأثير ما سينتهي إليه الأمر هنا على أوضاعهم هناك.
ومن هذا الموقع تحديداً، موقع غير المناقشة عروبته وغير المطعون بعظيم عطائه، يستطيع لبنان أن يطالب حكام العرب بضغط أشد على الحليف الوحيد لأكثريتهم الساحقة، أي على الولايات المتحدة الأميركية ورئيسها ريغان، لكي ينتزع له من إسرائيل انسحاباً كاملاً وحقيقياً، وليس انسحاباً تجميلياً تتحرر بموجبه بعض الأرض، لتهرتهن كلياً الإرادة والسيادة والاستقلال وحلم الوطن الواحد.
ومن غير المنطقي أن يهدر لبنان دمه، وحقوقه، مرتين: مرة بحرب فرضتها عليه إسرائيل فرضاً، من دون أن يكون له – كدولة – دور فيها، ومرة “بسلم” تفرضه عليه إسرائيل فرضاً بما لا يبقى منه لا دولة ولا أرضاً يقوم عليها وطن لشعبه المثخن بالجراح.
إن العرب عموماً، شعوباً وحكومات، يمكنهم ويتوجب عليهم أن يعطوا لبنان أكثر بكثير، بل وبما لا يقاس، مما أعطوا أو تعهدوا بإعطائه، ولكن الحق بمطالبتهم يسقط أو يضعف بقدر ما يتخلى لبنان الرسمي عن صورة لبنان الشعبي المستقرة الآن في عيون العرب ومهج أطفالهم.
ذلك إن لبنان يأخذ من العرب بقدر ما يثبت إنه – في المفاوضات كما في الحرب – هم جميعاً،
… خصوصاً وإن إسرائيل تتعاطى معه إنه العرب جميعاً، لأنها تدرك إن طبيعة “الاتفاق” الذي ستصل إليه معه سينعكس فوراً عليهم في مختلف أقطارهم، وبغض النظر عن هويات أنظمتهم القائمة.
وليس بالتهرب من عودة مكتب لجامعة الدول العربية في بيروت، خشية الحرج من تأثير مثل هذا الإجراء على سير المفاوضات، يكون تأكيد الجدارة بموقع المفاوض باسم كل العرب لأنه قاتل أو “قوتل” أو قتل نيابة عن كل العرب.
كذلك ليس “بالهجوم” على غابة من أشجار النخيل المستوردة من أوروبا، وإتلافها تحت شعار إنها “رمز عربي” لا نريد أن نراه في لبنان الجديد”، يكون توكيد عروبة لبنان المطالب بأن يدعمه كل العرب ليحمي ما تبقى من حقوقهم ولا يتخلوا عنه حتى لا يتسبب في خسارة المزيد من هذه الحقوق.
ومرة أخرى، يجب أن يستحضر المفاوض اللبناني صورة أنور السادات ونهجه والنتائج التي انتهى إليها وأنهته لكي يحسم أمره بوضوح: هذا ما يجب ألا أفعله، فلتكن لي طريق أخرى.
وإذا كانت إسرائيل تفرض على الدول العربية أن تواجهها واحدة واحدة، فتستفرد بكل منها على حدة، فلندخل حكام العرب كلهم معاً إلى قاعة المفاوضات، بأي ثمن، وايضاً كشريك كامل أو شريك للشريك الكامل الفائق الاحترام!

Exit mobile version