طلال سلمان

على الطريق بين دولة تريد وطناً ومن يقدم “دولته” على الوطن

… وبين “خلده” اللبنانية و”الخالصة” التي صارت – بالقهر – “كريات شمونه” تدور رحى معارك جانبية بينها ما هو خطير، على هامش “حرب المفاوضات” المستعرة بهدف إجلاء المحتل الإسرائيلي عن ترابنا الوطني.
وأبرز هذه المعارك الجانبية وأخطرها تلك التي تتخذ من شعارات الاقتتال الأهلي ونتائجه السياسية المريعة منطلقاً للدعوة إلى ما يشبه الاستسلام بغير شروط للعدو الإسرايئلي..
فثمة فريق لا يفتأ يضغط على الحكم (والرأي العام) بالتهديد بتجديد الاقتتال، وينادي عبر مختلف وسائل الأعلام بدعوة مشبوهة خلاصتها: صالحوا إسرائيل وانسحبوا من العروبة نهائياً وإلا فبيننا وبينكم السيف!
وفي منطق هذا الفريق الأعمى بالتعصب الفئوي وبالانبهار بالنموذج الإسرائيلي إنه هو المنتصر طالما إن إسرائيل هي التي انتصرت فاحتلت ما احتلت من لبنان وأخرجت من أخرجت منه، مفترضاً ضمناً إن من لا يقول قوله عليه التسليم بشروط المنتصر والتحلي بآداب الهزيمة وإلا فليرحل إلى … الصحراء التي جاء منها.
ومن هنا فإن هذا الفريق لا يهمه أن يؤدي إشعال النار في الجبل إلى تمزق ما تبقى من لبنان، فانتصاره بالهيمنة أهم لديه من استعادة الوحدة الوطنية كمدخل لتحقيق حل الوطن، ولا مانع – لديه – أن تتم هيمنته في ظل استمرار الاحتلال الإسرائيلي وبحمايته وعلى حساب أخوانه في الوطن وشركائه في المصير.
كذلك فإن هذا الفريق لا يهتم كثيراً لمصير الجنوب، فلا بأس – في نظره – أن تأخذه إسرائيل طالما إنه (هو) حليفها ووكيلها المعتمد في لبنان، وطالما إن “حصته” مضمونه في كل الحالات وخارج إطار البحث… ولو مع الدولة وفي ظل التسليم بحق جيشها في ممارسة مسؤولياته فيها.
والتتمة المنطقية أن لا يهتم هذا الفريق لمصير البقاع والشمال، فما حاجته إلى “الأطراف” طالما إنه يسيطر إلى “المركز”. الأطراف هي صاحبة الحاجة، إذن فلتدفع الثمن مسبقاً، ولتأت طائعة مستسلمة لقدرها: هي بعض أملاك أصحاب المركز وبعض رعاياهم، له القرار وحق الأمرة وعليها أن تصدع فتنفذ بغير نقاش.
وحسناً فعل وزير الخارجية الدكتور إيلي سالم بإعادة التوكيد على المواقف الأساسية للحكم والدولة، عبر مؤتمره الصحافي للمراسلين الأجانب يوم أمس.
صحيح إن كلام سالم، بمجمله ، هو توكيد لما سبق إن أعلنه الرئيس أمين الجميل في رسائله كما في أحاديثه منذ تسلمه مهام الرئاسة، لكن تجديد الالتزام بهذا المنهج بينما المفاوضات تتعقد يوماً بعد يوم نتيجة للتعنت الإسرائيلي وإصرار تل أبيب على شروطها المفروضة، يحسم مسألة حساسة كانت تشغل بال اللبنانيين في ظل الكتابات والتصريحات والبيانات ذات النبرة التقسيمية التي يقرأونها ويسمعونها صباح مساء.
وكلام وزير الخارجية يحدد إطاراً سليماً ومقبولاً، بل ومطلوباً، لسياسة لبنان، في المرحلة الراهنة، وفيه من قوة الحجة وسلامة المنطق والثقة بالنفس والحرص على الأرض والشعب، ما يسقط الكثير من التخوفات حول مستقبل لبنان ما بعد المفاوضات وخاتمتها المفترضة.
كذلك فإن كلام الوزير سالم قد جاء تسفيها لكل الطروحات المفرطة التي ينادي بها ذلك الفريق التقسيمي مستقوياً بالاحتلال الإسرائيلي ليس فقط على خصومه السياسيين بل أساساً على الحكم، خصوصاً وإنه يستفيد من الالتباس القائم حول مدى صلته بالحكم وموقعه من الحكم.
وهكذا فإن أهم ما في كلام وزير الخارجية هو التأكيد مرة أخرى وأخيرة بأن الدولة تقول غير ما يقولون وتؤمن بغير ما يؤمنون وتسلك سياسة غير التي يسلكون، بل ومتناقضة، ما سياستهم إلى حد التصادم.
فالدولة تقول إنها من العرب، وبهم تكبر ومن دونهم لا تكون هي ولا يكون الوطن، في حين يدعون هم إلى “انسحاب” لبنان من العرب وقضاياهم، ويرون إنه يكبر بعلاقاته مع إسرائيل وليس معهم.
والدولة تؤكد على دورها القيادي في العالم العربي، من ضمن تمسكها باستقلالها، وهم يعتبرون الانتماء للعروبة خروجاً على لبنان، و”السلام” مع إسرائيل – وبشروطها – مصلحة لبنانية!
الدولة تعطي سوريا حقوق “المركز المتميز” بوصفها “الجارة الأقرب” و”عمقنا الثقافي” و”بوابتنا” إلى العالم وصلة الوصل بالعرب كل ذلك من دون التفريط بحقنا في السياة والاستقلال، في حين يضعون سوريا في موقع العداء، بينما يسلمون لإسرائيل “بحقها” علينافي ضمان أمنها ومصالحها وازدهارها الاقتصادي عبر المعاهدة والتطبيع والقواعد العسكرية المسماة “محطات الإنذار المبكر”.
والدولة تؤكد اتفاقها مع منظمة التحرير الفلسطينية على سياسة واحدة، وتشدد على مشاعر الصداقة مع الفلسطينيين، انطلاقاً من الإيمان بقدسية قضيتهم العادلة، وبضرورة مساعدتهم على تأمين حقوقهم المشروعة، في حين يدعون هم إلى الاتفاق مع إسرائيل على حساب هذه القضية المقدسة ومعها حقوق اللبنانيين ذاتهم فوق أرضهمز
إن تجديد إعلان هذه المواقف المبدئية التي ترسم إطار السياسة المعتمدة من الدولة يعزز موقعها التفاوضي، إذ ينتزع لها التأييد من الأطراف جميعاً محلية وعربية ودولية، ويكشف أي منطق متطرف سواء أكان مزايداً أو مناقصاً.
فلا أحد يطالب لبنان بأكثر من هذا الذي أعلنه وزير خارجيته، إلا إسرائيل طبعاً.
وما نتمناه هو ألا يستمر ذلك الفريق في الضغط على الحكم عبر التهديد بتجديد الاقتتال لابتزازه وإضعافه في وجه المحتل الإسرائيلي.
… أما إذا كان الهدف من الضغط هو الاستيلاء على مواقع أساسية في السلطة فإن الوصول إليها لا يتم عبر الانحياز إلى بيغن ضد أمين الجميل، بل هو لا يستدعي مثل هذه المشقة، فليقم الوطن أولاً، وبعد ذلك – لا قبله – يمكن الاتفاق على توزع المغانم والأسلاب.
وليس شعاراً صحيحاً القول بأننا نريد استبدال أمراء الميليشيات بأمراء الطوائف، وإن أمراء فئة من طائفة هم الخير كله وهم طريق التطور وهم مصدر الحضارة بينما “الآخرون” هم بعض الماضي الذي سقط تحت سنابك خيل شارون.
لنساعد أولاَ على قيام الوطن، والمدخل الصحي والصحيح هو المساعدة على قيام دولته القومية، وبعد ذلك – لا قبله – يكون التنازع على مناصب هذه الدولة ومواقعها الحساسة.
ولا تستحق مراكز “الفئة الأولى” أن نذهب في طلبها إلى حد الاستعانة بدبابات شارون… خصوصاً وإن هذه الدبابات ستسحق، إذا ما أتت تلبية لنداء المستعين بها، كل من وما يقوم به وعليه الوطن والدولة العتيدة بكل مراكز الفئة الأولى والأخيرة فيها!

Exit mobile version