ليس أبأس من الياس سركيس رئيساً إلا وطنه ذاته الذي لما يتوقف نزيفه الحاد والمستمر منذ سنتين إلا قليلاً.
فلم يحدث إن رافق انتخاب أي رئيس ما رافق انتخاب الياس سركيس من ضغوط وتقولات وتأويلات ورمايات وقصف بالهواوين واستدعاءات واستنفارات وحكايات عن القبض والدفع في قلب المقر الموقت للمجلس النيابي…
كذلك لم يحدث إن استمرت معركة أي مرشح للرئاسة إلى ما بعد انتخابه مثل معركة الياس سركيس المستمرة حتى اليوم بقصد الحصول على “أصوات الكبار” الذين امتنعوا عن التصويت في 8 أيار الماضي، إذ لا يمكن في ظل حجبها أن يقوم حكم أو حكومة أو عهد جديد.
ثم إنه لم يحدث إطلاقاً أن أزف موعد التسلم والتسليم والرئيس المنتخب لا يدري هل يخلى بينه وبين السدة فيقبض على السلطة أم يظل “منتخباً” وتظل الرئاسة في حوزة غيره، ويظل الناس مضطرين لأن يسبقوا أي حديث عن عهده العتيد بكلمة “إذا…”؟!
على إن هذا الوطن الصغير الجريح يستقبل رئيسه الجديد استقبالاً حسناً، وهو يتقدم فوق الشوك متصدياً لمعالجة المسألة اللبنانية القديمة بتاريخ نشوئها والمتفجرة بتعدد أسبابها وبالإهمال المتصل لعلاجها الحاسم.
وها هو شعب لبنان، بأحزابه وهيئاته وجراحاته المؤلمة جميعاً يتجاوز ظروف الانتخاب والمطاعن، ويفتح الطريق فسيحة أمام الياس سركيس ليكون رئيساً لكل لبنان ولكل اللبنانيين.
ويبقى على الياس سركيس، شخصياً، إثبات أهليته كقائد في مستوى المرحلة الصعبة ومتطلباتها الهائلة وتعقيداتها الكثيرة محلياً وعربياً ودولياً.
ومن أجل إثبات الأهلية بمرتبة القائد التاريخي المطلوب لمثل هذه المرحلة لا مفر لالياس سركيس من تأكيد حقيقتين أساسيتين:
*الحقيقة الأولى – إنه رئيس لكل اللبنانيين، بمختلف فئاتهم ومشاربهم، وليس رئيساً لبعضهم نكاية ببعضهم الآخر.
أي إنه ليس رئيس تحد، وليس رئيس “الصوت الواحد” كالذي يأتي اليوم ليخلفه.
وبمفهوم هذه الحقيقة وكشرط لها يرفض لبنان أن يكون عهد الياس سركيس امتداداً لعهد سليمان فرنجية في أي مجال وضمن أي نطاق.
بل إن لبنان يطمح لأن يكون زوال فرنجية بعدما أنجز مهمة تدمير الوطن والنظام القديم، إيذاناً بولادة نظام جديد يليق بهذا الشعب الذي دفع من دمه ومن أرواح شهدائه ثمن التغيير الذي يطمح إليه ويريده مدخلاً إلى الربع الأخير من القرن العشرين.
*الحقيقة الثانية – إنه ليس رئيساً باسم بعض العرب في وجه أو ضد العرب الآخرين…
ذلك إن وجود لبنان، مثل مصيره، قضية عربية، وفي غياب قيادة تاريخية واحدة وموحدة للعرب فليس من حق أي حاكم عربي أن يطلب من لبنان واللبنانيين ما لا يستطيع الحصول عليه من مواطنيه ذاتهم ولا حتى من قادة الدبابات التي تحمي نظامه وتؤكد نزعته “الديمقراطية” الأصيلة.
من هنا فإن الياس سركيس هو أول رئيس يطالب أول ما يطالب، بأن ينسح ويجعل الناس ينسخون، على الفورن ظروف ترئيسه وما افترض فيه من “مؤهلات” تتناسب مع تلك الظروف ومع أمزجة المنتفعين بها ومصالحهم الكبيرة.
بصيغة أوضح فإن الياس سركيس ليس رئيساً باسم جبهة الكفور، وليس منها، وإن كانت هي التي سبقت في ترشيحه لتحرج خصومها السياسيين فتخرجهم من دائرة الرضا به إلى معارضته بوصفه الرئيس الخصم.
وهو مطالب، ومنذ اليوم الأول، بل خاصة في اليوم الأول لحكمه، أن يسقط كل وهم حول ولائه للكفور، بما تعنيه الكفور وأصحابها وجبهتها من عداء لكل من هو وطني وتقدمي، ولكل ما هو تطوير وإصلاح واتصال بروح العصر.
كذلك فالياس سركيس ليس رئيساً باسم النظام الحاكم في دمشق وليس له، وإن كان هذا النظام قد نزل بخيله ورجله وصاعقته إلى الشارع لكي يزعم من بعد، لنفسه وللآخرين، إنه صنع رئيس جمهورية لبنان للفترة 1976 و1982.
بصيغة أوضح فليس الياس سركيس ولا ينبغي أن يكون “سوريا” بمعنى التضاد مع الفلسطينيين والتناقض مع المصري والتناحر مع العراقي الخ.
وإذا كان من حق سوريا (وبغض النظر عن نظامها) أن تكون الدولة الأكثر رعاية في لبنان، فإن من حق شعب فلسطين أن يكون الشعب الأكثر رعاية، ومن حق قضيته أن تكون القضية اللبنانية الأولى بقدر ما هي قضية القضايا العربية ومنبعها ومصبها جميعاً.
على هذا رحب اللبنانيون بلقاء رئيسهم المنتخب مع رئيس منظمة التحرير الفلسطينية فور انتخابه ثم عشية تسلمه للسلطة،
كذلك رحبوا بذهاب رئيسهم إلى مصر، ومرة أخرى بغض النظر عن رأيهم في نظامها الحاكم،
وهم سيرحبون بالتأكيد إذا رأوا رئيسهم يتصل بقادة ليبيا والعراق والجزائر انتهاء برأس الخيمة.
فرئاسة الجمهورية في لبنان هي نقطة تقاطع المصالح جميعاً: المحلية والعربية والأجنبية، وليس إلا في ظل التوازن يمكن موضوعياً أن تستمر المسيرة نحو الدولة الديمقراطية والعلمانية في لبنان، تمهيداً للمسيرة الفلسطينية العتيدة.
من هنا الحق غير المنكور للفلسطيني في أن يدلي بصوته في انتخابات الرئاسة في لبنان، ربما قبل غيره من العرب،
ومن هنا ضرورة أن يستمر الياس سركيس في الحوار الجاد والمسؤول مع القيادة الفلسطينية حتى تعطيه صوتها منتقلة بذلك من موقع “المترقب” بغير عداء إلى موقع “القابل” ولو بقدرمن التحفظ ريثما تطمئنه التجربة العملية فيجاهر بتأييده صريحاً.
وبصراحة نقولها للرئيس سركيس: إن الصوت “السوري” ليس بديلاً عن أي صوت عربي آخر، وهو لا يغني – بأي حال – عن الصوت الفلسطيني.
لقد بدأ في لحظة وكان كل الأنظمة العربية تعبر عن نفسها ورغباتها في لبنان وتجاه المقاومة الفلسطينية عبر نظام حافظ الأسد.
لكن ذلك يكون سلباً ولا يكون إيجاباً،
بمعنى إن تلك الأنظمة قد تفوض الأسد في أن يصفي أو يحجم المقاومة الفلسطينية ويغرقها ويغرق معها في بحيرة من الدم،
وهي قد تخوله ذبح الحركة الوطنية في لبنان باسمها ولحسابها، ومن ثم بتأييدها المضمر أو المعلن لا فرق.
على إن الموقف ينقلب رأساً على عقب متى حان حين قطف الثمار وجني المكاسب: عندها يبرز كل نظام “حجته” مطالباً بحصته كاملة غير منقوصة.
وهكذا يعود النظام السوري إلى حجمه الطبيعي كواحد من أصحاب الحصص وليس بديلاً عنهم، مجرد وكيل بالأجر يجازي إن أحسن ويعاقب إن هو أخطأ أو تأخر عن الموعد المضروب لإنجاز الالتزام!
… ونحب أن نفترض إن الرحلة العربية الأولى للرئيس سركيس (إلى خارج سوريا وبعيداً عنها) قد أكدت له انتهاء “التفويض العربي” للحاكم السوري مع انتهاء عهد سليمان فرنجية وبداية عهده هو.
وإذا كان لا بد من الاستذكار والتذكير فإن عودة بسيطة إلى أجواء انتخابات الرئاسة تكفي لإثبات إن الياس سركيس كان المرشح المصري – العراقي – الجزائري – السعودي – الأميركي بقدر ما كان المرشح السوري – الكفوري – الكرامي للرئاسة الأولى في لبنان.
هذا مع الإشارة إلى أن الصوتين الآخرين: الفلسطيني والوطني اللبناني لم يقترعا ضد، وهما حتى هذه اللحظة يجاهران باستعدادهما للتأييد بشروط نراها في مصلحة الياس سركيس الطامع إلى دور تاريخي، كمصلح للنظام من أجل حماية لبنان وحدة ووجوداً، وفي غير مصلحته إذا كان يريد أن يحكم من موقع فئة ولحساب فئة مهما بلغت من قوة.
وهكذا يفرض السؤال نفسه: بمن سيحكم الياس سركيس الرئيس؟..
والإجابة تشكل مدخلاً إلى السؤال الأساسي الآخر وهو: لمن سيحكم الرئيس الياس سركيس؟.
وفي ضوء الإجابتين تتحدد قدرة الياس سركيس على اكتساب “الصوتين الكبيرين” الناقصين من دون أن يفقد (الأصوات) التي أعطيت له لتفقده ما عداها… أي لتفقده عملياً القدرة على أن يحكم وعلى أن يكون ما يفترض وما يطمح (وما نحب) أن يكون.
غداً: بمن سيحكم الياس سركيس؟