طلال سلمان

على الطريق المواطن الأخير…

من أسف إننا لا نعرف، بالضبط، أولئك الذين اختطفوا جان عبيد واحتجزوه، حتى كتابة هذه السطور، لنتوجه بالخطاب فننبههم مباشرة إلى خطورة ما أقدموا عليه بكل النتائج السياسية الناجمة عنه،
ومن أسف إن هؤلاء “الأشباح” لا يعرفون، بالضباطن من هو جان عبيد وكم من القيم والمزايا والكفاءات يختزن في شخصه، حتى إننا لنخشى عليه منها إذا ما اكتشفها المختطفون فيه عبر الأصداء التي لا بد وصلتهم وعبر ردود الفعل المرشحة للتحول إلى كرة ثلج تتضخم ويتزايد ضغطها في كل لحظة.
فشخص جان عبيد فيه قدر هائل من الرمزية بما يجعله قريباً جداً من كل مواطن، في موقع الأخ أو الصديق حيناً، وفي موقع صاحب الرأي الشجاع والموقف الموحد والجامع، حيناً آخر، وفي موقع المؤهل لدور متميز دائماً كصاحب مساع حميدة (وبأفق وطني)، وكرجل مسؤول وقادر على أداء المهام الصعبة وفي اللحظات الأشد حراجة..
ومؤكد، على سبيل المثال، إن المختطفين لا يعرفون كم هو مجيد ذلك الدور الذي لعبه جان عبيد في إلغاء اتفاق 17 ايار، وإجمالاً في التحول الذي طرأ على سياسة أمين الجميل وجعله ينتقل من موقع الساعي إلى ما يشبه الصلح المنفرد مع العدو الإسرائيلي، إلى موقع المفاخر بأنه “الوحيد الذي لم يوقع ذلك الاتفاق” البائس من بين المسؤولين والقياديين اللامعي الأسماء في الحياة السياسية اللبنانية…
إن جان عبيد هو الصورة الكاملة للمواطن اللبناني الأصيل في عروبته وانتمائه القومي، الرافض للطائفية والطائفيين، سياسة وممارسة وأسلوب عمل،الوحدوي حتى العظم، المعتدل ذلك الاعتدال الذي من دونه لا يكون لبنان دولة ولا وطناً،
وجان عبيد اللبناني “سوري” بقدر ما هو “فلسطيني” وهو “مصري” بقدر ما هو “جزائري”، وهو عموماً مع كل التماعة ضوء في الوطن العربي، مع كل تقدم ومع كل طموح إلى التقدم، مع كل تحرك في اتجاه الوحدة ، ومع كل اندفاعة في اتجاه التحرر، ثم إنه مع الشرق – الشرق العربي والإسلامي – وليس من الغرب أو معه وإن كان منفتحاً على الثقافة، واعياً لأهمية وخطورة الدور الغربي في هذه المنطقة، ومن ثم ضرورة أن تقوم بيننا وبينه علاقة متوازنة.
إنه “الصديق”،
صديق حافظ الأسد وصديق كميل شمعون، صديق سليمان فرنجية وصديق كمال جنبلاط، ثم وليد جنبلاط، صديق عبد الحليم خدام وحكمت الشهابي، ومصطفى طلاس، وصديق نبيه بري وكامل الأسعد وحسين الحسيني، صديق الكاردينال خريش والبطريرك صفير، والمطران أبي نادر وصديق مفتي الجمهورية الشيخ حسن خالد، والشيخ محمد مهدي شمس الدين، صديق رشيد كرامي وتقي الدين الصلح وسليم الحص، وصديق جورج سعادة وجوزف الهاشم ورينيه معوض،
والكثير الكثير من السياسيين وإنصاف السياسيين يعتبرون صداقتهم لجان عبيد بين مؤهلاتهم، والبعض يتخذه نموذجاً في الاعتدال والتوازن الدقيق والنجاح الشديد في بناء صداقاته وعلاقاته والحرص عليها، برغم إنه لم يتخل يوماً عن شجاعته الأدبية وهي تكاد تتجاوز المألوف.
فصداقة جان عبيد لبيار الجميل وللكتائب لم تؤثر أبداً على موقفه المعروف من بشير الجميل الذي مات وهو يكن له شعوراً قاسياً بالعداء.
وصداقة جان عبيد للشيوعيين، مثلاً، لم تمنعه من أن يبني صداقة مع حركة “أمل” وتيار “حزب الله”ن ولامنعته صداقته للبعث من أن يكون صديقاً للقوميين السوريين أو حتى لوجوه في حزب “الأحرار”،
وهو قد اعتمد هذا النهج في العمل لأنه مؤمن بلبنان الواحد الموحد، الوطن والدولة العادلة التي لا يغبن فيها مواطن ولا يميز فيها آخر بسبب من الانتماء الديني أو المذهبي.
من هنا إن كل مواطن قد أحس، أمس، وربما أكثر من أي يوم إنه هو شخصياً المستهدف بالخطف والاحتجاز، وأساساً المواطن في بيروت،
بل لقد ساد شعور وكأن البقية الباقية من بيروت قد اختطفت باختطاف هذا “المواطن الأخير” فيها، الرافض مثل سكانها جميعاً تقسيمها وتشطيرها على الطوائف وميليشياتها، كتتمة منطقية لرفضه الصلح مع العدو الإسرائيلي وتأكيده على الانتماء القومي للبنان وجميع مواطنيه.
جان عبيد أحد قلائل تتجسد فيه المعاني المضمرة في كلمة “نحن”،
إنه “نحن” فعلاً،
نحن كل الذين يمضون، الآن، لحظات حرجة في السراديب المظلمة، في انتظار أن يعي الذين اختطفوا جان عبيد أي خطأ شنيع ارتكبوا، تجاه أنفسهم أولاً ثم تجاه كل الناس (ويفترض أن يعني موقف “الناس”، كل الناس، شيئاً كبيراً للجهة المختطفة وإلا فإنها تكون ساعية بقدميها إلى خسارة محققة)….
“المواطن الأخير” محتجز الآن،
ونأمل أن يكون الإفراج عنه إعلاناً عن ولادة “المواطن الأول” بعد هذه المحنة القاسية التي تعيد خلقنا بصورة أخرى، مختلفة تماماً، عن التي كنا عليها حتى ليكاد ينكرنا أبناؤنا.
… ومن أسف يا جان إنك محتجز الآن، وإلا لكنا سعينا إليك لتساعدنا كما ساعدت مئات المرات في الإفراج عن محتجزين أو مختطفين بالخطأ أو بالخطيئة.

Exit mobile version