طلال سلمان

على الطريق الفقراء أعطوا فأين الأغيناء؟!

فهم اللبنانيون، بعد مكابرة امتدت أطول مما يجبن أن من بيدهم القرار في مركز الكون قد سمحوا – أخيراً – بوقف لعبة الموت في بلدهم الصغير، ولكنهم لم يسمحوا بعد بأن يعود، إلى الحياة بدوره وعافيته وانتعاشه الاقتصادي.
أبسط الأدلة اثنان وكلاهما معبر وله ما بعده:
*الأول – استمرار الحظر على سفر الرعايا الأميركيين إلى لبنان، برغم أن ليل اختطاف الرهائن قد انقضى، وبرغم أن الأمن قد استتب كأفضل ما يكون في أي بلد “متحضر”، وإن تجارة المخدرات قد أصابها البوار، بعدما تمت معالجة انتشارها في الولايات المتحدة ذاتها الخ…
*الثاني – استمرار الحظر على المساعدات والهبات ومختلف أشكال الدعم الاقتصادي للبلد الذي هدمته “حروب” العشرين سنة الماضية، وهي “حروب” كانت لها وظيفتها الأميركية والإسرائيلية كما أن نتائجها تصب في نهر المصالح الأميركية (والإسرائيلية) وليس خارجه…
هذا مع التنويه بأن المصدر الأساسي للمساعدات كان وما يزال، ولو في التوقع أو التمني، عربياً، وبالتحديد من السعودية وسائر أقطار الخليج العربي.
ولا يمكن تفسير ظاهرة الارتجاج في السوق النقدي، من جديد، إلا في ضوء ذلك القرار الذي لم تجد الدولة سبيلاً إلى تبديله أو تعديله، برغم كل ما قدمت من تنازلات كاد بعضها يذهب بالقرار 425، لولا النجدة الملكية الكريمة التي أعادت الروح إلى هذا القرار الدولي المنسي.
لكن لوزير الدولة لشؤون المال رأياً آخر قاله (على الواقف) وخلاصته: إن الحديث عما يجري في السوق النقدي، واضطرار المصرف المركزي إلى التدخل القوي والمكلف، هو الذي يضر باقتصاد البلاد،
وفي تقدير الوزير ذي الخبرة العريضة في سوق النقد ومواقيت التدخل ومكافحة المضاربة إن الصمت هو الدواء الشافي لأمراض الاقتصاد اللبناني، أما الإشارة إلى حقيقة ما جري ويجري من بعيد أو قريب فتلك جريمة قد تصل إلى حد الخيانة!
ولو أن الوزير ما زال مصرفياً متفرغاً في السوق لكان كلامه مختلفاً تماماً، ولكان قد قال في الحكومة كلاماً أقسى ألف مرة من هذا الذي بدأ اللبنانيون يقولونه في حكومته… أو هذا ما تعودناه منه، في الماضي.
وبغض النظر عن كلام الوزير الخبير فإن السؤال الذي يفرض نفسه حقيقة هو التالي: لماذا هذا الارتجاج؟! وما هي أسبابه على وجه الدقة؟! وهل هي، كالعادة، أسباب سياسية تتصل بحركة الحكم في الداخل، أم أنها تتصل بالتطورات في المنطقة وبما يراد من لبنان أن يفعله فيرفض أو يعجز عن تلبية الضغوط والشروط؟!
لقد تعود اللبنانيون أن يتأثر السوق النقدي كلما اختلف الرؤساء. أو اعتلت العلاقة بين المؤسسات الدستورية.
لكن ذلك هو الظاهر من جبل الثلج.
إن خلاف الرؤساء غالباً ما يكون الذريعة،
أما السبب الأصلي فهو القرار الأميركي (وضمنه دائماً المحرض الإسرائيلي) وهو امتناع القادر من العرب عن المساعدة بماله، خصوصاً وإنه لا يملك شيئاً آخر غير المال ينفعنا به.
والسؤال الساذج الذي يطرحه المواطن البسيط هو التالي:
ترى لو عاد الرئيس رفيق الحريري من زيارته الخاصة للمملكة العربية السعودية والتي استقبله فيها الملك فهد مرتين، بأربعماية وخمسة وعشرين مليون دولار بدلاً من العودة بالتأييد الملكي للقرار 425…
ترى لو عاد بمائة مليون دولار، فقط لا غير، ألم يكن اختلف “المناخ” وانتعشت الليرة، وتحركت عجلة الإنتاج، و”تهاطلت” المساعدات على لبنان بأكثر من قدرته على استيعابها أو توظيفها؟!
إن المائة مليون من السعودية تستجلب مائة أخرى من الكويت وثالثة من الإمارات ورابعة من سائر الخليج، وقد تستجلب مئات من البنك الدولي ومن السوق الأوروبية المشتركة ومن اليابان، ناهيك بصناديق التنمية العربية والبنوك الإسلامية الخ.
إن مثل ذلك المبلغ “التافه” – لو أنه جاء – لكان مؤشراً على تبدل القرار الأميركي (وضمنه دائماً المحرض الإسرائيلي) تجاه لبنان، بل وتجاه مسيرة الأحداث وتطوراتها المحتملة في المنطقة.
لكن القرار ما زال هو هو، والمال السعودي يذهب بالمليارات المتبقية بعدما غرف الأميركيون معظمه، إلى الحليف البريطاني والصديق التركي، وثمناً لسلاح لن يستخدم، فإذا ما استخدم فضد الشعب في الداخل أو ضد الأشقاء في الجوار،
وليست الحكومة هي المسؤولة عن عدم تبدل القرار،
ولكنها مسؤولة عن استمرار الركض وراء السراب والأوهام، وإطلاق الوعود والتعهدات غير القابلة للتنفيذ.
علينا أن نواجه الحقيقة وهي أن لبنان بلد فقير، وشبه معدوم الإمكانات، خصوصاً وإن أصحاب المال من “أهله” أثبتوا – بالدليل الملموس – إنه كلما زادت ثرواتهم نقصت وطنيتهم، وأبرز دليل أن أحداً منهم لم يعد أمواله من مصارف الخارج ليوظفها في إطلاق عملية الإنماء والأعمار في عاصمته وبلاده عموماً.
إنهم جميعاً ينتظرون ذلك القرار، وبذلك فهم يضيفون أرصدتهم على قوة الضغط الخارجي على البلاد، ويتسببون في إنهاك الاقتصاد وفي طعن النقد الوطني في الصميم.
لقد أعطى فقراء اللبنانيين رفيق الحريري (وحكومته) مليار دولار، هي مجموع المبالغ التي ذهبوا بها إلى مصرف لبنان فاستبدلوها بالليرة دعماً للنقد الوطني،
أما الأغنياء فقد أخذوا الكثير، وهم يتربصون بليرتنا الآن لينهبوا أكثر، ونفترض أن هذه الحقائق لا يمكن أن تغيب عن مصرفي كفوء ومتيقظ مثل وزير الدولة لشؤون المال،
فلينصرف الجهد إلى معالجة السبب لا النتائج، المرض لا مظاهره، وإلا تكررت “المؤامرة” فنسفت ما تبقى من أسباب الثقة بالدولة جميعاً وليس فقط بهذا الرئيس أو ذاك الوزير.
إلا إذا كان المطلوب ضحية لتحميلها أسباب فشل الذين لا يريدون أن يعترفوا بأنهم المقصرون!
وسلام على من أتبع الهدى!

Exit mobile version