طلال سلمان

على الطريق العراق بين جلادين!

ليس أسرع من الطائرات في فتح باب “الحوار”… بين منتخاصمين؟!
فالعصر عصر سرعة، والطائرات تسبق الرسل، كما إنها أفصح لغة من الرسائل مهما كانت براعة الكاتب وشفافية الصفقة العتيدة.
وهكذا ينصب صدام حسين صواريخه مكشوفة، ويرفض الانذارات بسحبها، و”يتمرجل” على مراقبي الأمم المتحدة الذين جاؤوا لجمع حطام هزيمته الأولى، ويعيد إطلاق التهديدات الفارغة عن استعادة الفرع الكويتي إلى الأصل العراقي،
… فيجيء الأميركيون، على جناح قلاعهم الطائرة (ومعهم، كالعادة، البريطانيون وبالتالي الفرنسيون) لتأديب هذا “المتمرد” الذي يهدد حريتهم المطلقة في السيادة على المنطقة برمتها، أرضاً وجواً وبحراً، فيدمرون الصواريخ والمطارات والكرامة والعنفوان ووحدة العراق الوطنية،
عندئذ، وعندئذ فقط، ينفتح الباب على مصراعيه للكلام الصريخ بين جلادي العراق!
وإنها لتضحية رخيصة أن يتم وأد العراق من أجل أن يستوي الحوار بين العهد الأميركي الجديد، بيل كلينتون، وبين العهد العراقي العتيق، صدام حسين.
فالحكام “العربي” أهم من الوطن العربي، بشعبه وأرضه ودولته والمؤسسات جميعاً، بدءاً بالجيش وانتهاء بمصلحة مياه الشفة!
ولكم من الحكام العرب باع بلاده في سوق النخاسة ليشتري سلامة رأسه أو ديمومة كرسيه، انطلاقاً من “إيمانه” بأنه وحده القادر على استعادة الوطن وإعادة بنائه إذا ما تهدف أو ضاع، أما إذا “ذهب” هو – لا قدر الله – فإن الوطن سيغدو أرملة مهجورة ومنبوذة وبلا معيل.
الحاكم الفرنسي القديم كان يقول: أنا الدولة،
أما الحاكم العربي المعاصر فلا يقول ولكنه يتصرف بالدولة تصرف المالك بملكه، أما الشعب فليس أكثر من رعية تتراوح مرتبة الفرد منها بين القن وبين السكرتير الخاص لترتيب ملذات السلطان.
غير بعيد عن صدام حسين يقوم النموذج – الضد، برغم أنه من الطبيعة ذاتها: كانت عودة “الأمير” تتقدم على استعادة الكويت، وعلى مقاس “الأمير” عاد “الفرع” دولة ذات سيادة “أميركية” غير منقوصة.
مع “الأمير” لا يغدو الأميركي محتلاً بل هو “المحرر”، أما المحتل فهو ذاك الذي أعلن خلع “الأمير”.
الحاكم هو الأصل، والباقي تفاصيل!
ولأن المحتل الأميركي “يعرف” عن الحاكم العربي ما لا يُعرف، فقد أطلقها بيل كلينتون صريحة وواضحة: “لست ضد الشخص، أنا فقط ضد ممارساته”.
ولم يكن صدام حسين يريد أكثر من ذلك. تلك هي أمنيته التي ذبح من أجلها العراق مراراً. إذن، فلقد انتصر!
وسيجد صدام الكثير من نقاط التلاقي مع “خصمه”: ألم يكونا رفيقي سلاح في “الحرب” ضد جورج بوش؟! الم يوفر حاكم العراق جملة من أسباب انتصار كلينتون على منافسه الجمهوري؟! ألم ييسر له، بالتالي، أن يرث هيمنة أميركية مطلقة على مصادر الثروة النفطية وطرقها، بحيث يستطيع الادعاء بأنه سيعالج المعضلة الاقتصادية الخانقة التي خلفها سلفه؟!
ليس مهماً ثمن الانتصار. ليس مهماً مضمونه. المهم أن تبقى، ذلك هو النصر الأكيد، وما عداه زبد وقبض الريح.
الحاكم بالهزيمة يبقى بغير مخاطر تهدده، أما الحاكم بمحاولة تغيير المعادلات وتحقيق الأحلام وتسجيل انتصارات جدية على أعداء الأمة فعمره قصير جداً!
لقد هزم العراق، مرة أخرى… لكن “المتصرين” بيل كلينتون وصدام حسين سيجدان أهدافاً كثيرة تجمعهما!
وليس أنفع منصدام حسين للمصالح الأميركية: إنه أفضل فزاعة بالمطلق! ويمكن استخدامه على جبهات عدة، من إيران الثائرة بالإسلام، إلى السعودية المستكينة بالملكية المدجنة، إلى سائر أقطار الخليج!
إنه “شفاطة” يمكنها أن تنزح آخر قرش موجود في تلك الأرض الغنية إلى السيد الأميركي، و ما لم يدفع ثمناً للتحرير دفع ثمناً للسلاح استعداداً لمواجهة مخاطر الغزو التالي.
ثم إنه ضمانة عز نظيرها للأمن الإسرائيلي: فقد حذف أهم عناصر القوة العربية بدل أن يضيف إليها،
… واستعدى العالم على العرب، فصاروا يفقتدون فيه الصديق، وقد كان لهم فيه أصدقاء أقوياء ومخلصون،
بل إنه أفقد العرب نصيرهم القديم الأساسي ممثلاً بالأمم المتحدة، التي كانت ملاذهم وملجأه، يذهبون إليها بالشكوى فيعودون منها بقرار غير قابل للتنفيذ ولكنه يكفي لتعزية الذات وتعميق إيمانهم بحقهم وشعورهم بالظلم الذي قد يتحول على مفجر للثورة، ذات يوم.
لقد اجتمع “الجلادان” على العراق: واحد يكبله والآخر يقتطع من لحمه، تارة في الشمال وطوراً في الجنوب، بحيث ينهك القلب فيخر صريعاً.
بل إنهما اجتمعا على عموم العرق: سواء أولئك الذين يكادون يموتون هلعاً في الجزيرة والخليج، أو أولئك الذين خسروا الكثير من قوتهم المفترضة في مواجهة عدوهم القومي، والعديد من أسباب استقرارهم، حتى من قبل أن تبدأ “الحرب” الحتمية معه وعلى شكل مفاوضات في إطار “مؤتمر السلام”، وبرعاية أميركية كريمة!
لقد تسبب هذا المهووس بالسلطة في هزيمة قومية ثالثة،
لقد أفقد الأمة الأمل بحرب ناجحة،
كما أنه أنقص قدرتها على تحقيق تسوية مقبولة تحفظ الحد الأدنى من ماء الوجه، وبالتالي من الحق التاريخي،
ولعل هذا هو مصدرشعوره المتورم بالانتصار!
إنه المنتصر الذي قتل أمه ليبيع أشلاءها لأعدائها!
والتداعيات ثقيلة، والأحزان لا تأتي فرادى،
والوطن العربي كله يعيش الآن “الحزن العراقي” الثقيل والذي بعمر التاريخ!

Exit mobile version