طلال سلمان

على الطريق الراشون قضاة…

من الحرير إلى الخيش في سنة واحدة!
لقد أطلت هذه الحكومة عبر وهج الأحلام المذهبة عن ربيع النهوض الاقتصادي وإعادة إعمار لبنان، وها هي تختم عامها الأول وليس في برنامجها من إنجاز، غير الشركة العقارية لوسط بيروت، إلا محاولة تطويع الإدارة، أو ما تبقى منها، باسم التطهير وطلباً لنظافة اليد والذمة!
كأنما صرف بضع مئات من صغار الموظفين، وبغض النظر عن أوضاعهم، هو العلاج الفعلي لمشكلة الاختناق الاقتصادي وللارتفاع الفاحش في كلفة الحياة اليومية والذي نجم بمعظمه عن زيادة الضرائب والرسوم وقد فرضتها “حكومة الدنكورة” بالعدل والقسطاس على محدودي الدخل كما على ملوك التهريب والمقاولات والمخدرات والصفقات “الرسمية” المشبوهة، إضافة إلى المنتفعين بالحرب وليس أكثر منهم إلا تجار السلام!!
ونسارع فنقول: إن الإدارة فاسدة، أو إنها على الأصح مُفسدة،
والتطهير مطلوب، لكن هذه الحكومة هي آخر من يصلح لمنصب القاضي والنظر في مسائل الإفساد، بل لعلها أولى بالمحاسبة من صغار المرتشين لأنها – وبإجماع الآراء – تضم أعظم الراشين ومستغلي النفوذ إطلاقاً.
ولقد كانت الإدارة دائماً موضع شكوى،
ودائماً كانت توجه إليها الاتهامات بالفساد والقصور والعجز عن مواكبة حركة التقدم بحيث تكون الدولة طليعة مجتمعها أو قريبة منه تواكبه بالتشريع والإنجاز ليندفع إلى الأمام مقتحماً العصر،
طبعاً لذلك أسباب موضوعية أبرزها أن الإدارة هي عنوان الدولة – المزرعة، وبالتالي كان سهلاً على أي عهد جديد أن يتهم الإدارة بأنها مزرعة سلفه وأن يسعى إلى “تطهيرها” بالاستمالة أو بالإقالة، وعموماً بالتدجين لكي تغدو “مزرعته” هو، في انتظار الآتي بعده الذي سيتهمها بأنها مزرعة “العهد البائد” وهكذا دواليك…
الفساد عنوان ثابت، المتغير هو اسم الحاكم.
والفساد درجات ومستويات…
والمؤكد أن الفساد قد بلغ خلال الحرب، ثم خلال التسويات لتصفية بعض نتائجها السياسية، ذروته المطلقة.
فلقد تلاقى على إفساد الإدارة، والحياة عموماً ، كل القوى الخارجة على القانون والتي غدت في فترة هي القانون، ثم في فترة أخرى مصدر القانون، سواء باصطناعه شرعاً وإما شراء القيمين على تنفيذه.
لذا من الظلم النظر إلى الإدارة بمعزل عن وضع المجتمع والدولة وحكوماتها المتعاقبة وصولاً إلى هذه المذهبة.
فالإدارة ليست جزيرة معزولة في المحيط، هبط عليها فجأة ملائجة مطهرون من كوكب آخر.
إنهم أبناؤنا وأشقاؤنا وأهلنا. فيهم من الفساد مثل ما فينا، وفيهم أيضاً من الصلاح وإرادة الخير والصالح العام مثل ما فينا.
المفارقة أن القضاة الذين يحاسبون الإدارة اليوم، ويشهرون بوجهها سيف التطهير هم أعظم مفسديها إطلاقاً، برهبة السلاح وسطوة السلطة وجبروت المال.
ما لنا وللرشوات التافهة أو المخالفات الثانوية،
ولنأخذ قانوناً مثل ذلك المتعلق بالشركة العقارية التي اقتطعت الوسط التجاري لمدينة بيروت، ويكفي به مثلاً…
الشائع والذائع بين الناس أن ذلك القانون لم يمر، وما كان ممكناً أن يمر، لولا أنه شق طريقه بالرشوة الصريحة والمباشرة، من مجلس الوزراء إلى مجلس النواب، وبالعكس… وثمة من يسرد معلومات فيها أسماء وتواريخ وأرقام (بالدولار)، والله أعلم!
ثم إن الشائع والذائع بين الناس أن التضحيات ما كان يمكن أن تمر، وفيها كل هذا الظلم لأصحاب الحقوق في الوسط التجاري، إلا بالرشوة المعززة بنفوذ مطلق، بحيث أن من يرفضها سيتعرض للمساءلة أو للاتهام بأنه لا يريد لبيروت أن تنهض مجدداً من قلب الدمار وأن تستعيد دورها بكل أمجاده الغربية والدولية…
والشائع والذائع بين الناس إن ما من مسؤول كان على صلة بهذا الأمر من قريب أو بعيد إلا ونال نصيبه عداً ونقداً…
لنأخذ مثلاً ثانياً لا يقل عن هذا وضوحاً،
قبل فترة وجيزة أصدرت هذه الحكومة تعيينات ملأت بها معظم الشواغر في الإدارة،
وفي حين تم الطعن بكفاءة العديد ممن فرضتهم الميليشيات على قمة الجهاز الإداري، فقد أثيرت تساؤلات وجيهة حول آخرين أكفاء جداً لكن مداخيلهم في الخارج كانت هائلة بحيث يستحيل الافتراض أن الوطنية وحدها قد أعادتهم إلينا…
وهكذا تكشفت حقيقة موجعة جداً وهي أن كثيراً من العائدين إنما جاؤوا بإغراء الراتبين،
ولما كانت الدولة أفقر من صاحب الدولة فإن الراتب الأعظم ليس منها، وبالتالي فإن الولاء سيتجه إلى من دفعه… والمشكلة مرجأة إلى يوم افتراق الدولة عن “صاحبها”…
في أي حال، يمكن تعريف التطهير بالقول: إن الذين جاؤوا برجالهم يطردون الآن رجال الآخرين، أو أولئك الذين ليس لهم من يحميهم.
ويمكن بالطبع التساؤل عن معايير الميليشيا في الحكم على كفاءة الموظفين، وعلى نزاهتهم وعلى ولائهم للدولة.
في التراث “الشعبي” عن علاقة أهل السلطة بالإدارة حكايات تروى عن “السلطان سليم”، وهو الشيخ سليم الخوري شقيق الرئيس الأول للبنان المستقل المغفور له الشيخ بشارة الخوري.
في الذكرى الخمسين للاستقلال يبدو “السلطان سليم” مسكيناً، محدود النفوذ وبائساً: كان يتدخل في رؤساء المخافر، ويلغي مخالفات السير ويعطي صوره بديلاً من اللوحات للسيارات الخاصة لتعمل تكسيات!!
باختصار كان يستغل أخوته لرئيس الدولة من أجل مخالفات تتخذ طابع الخدمات الصغيرة للبسطاء والفقراء كي يستقطبهم لمناصرة “العهد”،
أما اليوم فيستخدمون الرؤساء والوزراء وأمراء الحرب كي يوفروا فرص ربح خرافية، وبمليارات الدولارات، لأغنياء المصادفات القدرية والهباشين وناهبي خيرات بلادهم وبلاد الآخرين باسم الأعمار والنهوض الاقتصادي.
ولنفرض جدلاً أن إعادة بناء الولة تفرض محاسبة هؤلاء المرتشين والمقصرين في الجهاز الحكومي،
فمن، إذاً، يحاسب الراشين، وكبار الراشين على وجه التحديد؟!
قد يتذرع المرتشي الصغير بأنه قبل الرشوة لكي يستعين بها على دفع الأقساط التي يرفعها أصحاب المدارس الخاصة على كيفهم بغير خوف من حسيب أو رقيب ، ويكون على الأهل أن يختاروا لأبنائهم بين الشارع وبين الإذعان ودفع القسط الباهظ.
وقد تكون الذريعة “فاتورة السنيورة” في الكهرباء أو الهاتف أو الجمارك، وما شابه من الخدع التي أجيزت بوهم تثبيت سعر الدولار وتوازن الموازنة…
ولكن من يستطيع محاسبة المصارف الكبرى والشركات الذائعة الصيت والبيوتات التجارية التي تتوسع باستمرار، برغم أن ميزانياتها المقدمة إلى دوائر المالية تقول إنها خاسرة وإنها مهددة بالإفلاس؟!
ومن يستطيع وقف تلك اللعبة الجهنمية المتمثلة بتهريب الأرباح إلى “المؤسسات الشقيقة” في الخارج، في حين تبدو المؤسسات – الأم في الداخل مهددة في استمرارها؟!
من الصعب في بلد كلبنان تتساوى الحرية فيه مع الفوضى والفلتان، وتصاغ القوانين بالتفصيل وحسب الطلب وعلى قياس القادرين ، الدفاع عن الجهاز الإداري فيه.
ثم إن الحرب – الدهر قد فرّغت هذا الجهاز من معظم عناصره الكفوءة… فمن لم يشرده الجوع أو الحرص على الكرامة الشخصية، شرده الإرهاب بالسلاح والتزوير بقوة الميليشيا ثم حماية المزور بالتستر بحقوق الطائفة.
ولقد كان المأمول والمرتجى من حكومات هذا العهد الآتي من خارج التوازنات المألوفة، أن تكون له رؤيته وأن يبتدع برنامجه الخاص لإعادة بناء الدولة كلها، مستفيداً من دروس الحرب القاسية ومن حقيقة إن كل أطرافها خرجوا منها مهزومين.
لكن المؤسف أن الصراعات الصغيرة والأغراض الصغيرة، وبعدها الأطماع الكبيرة، قد ضيعت الفرصة الثمينة،
وهكذا شهد اللبنانيون “معارك” عنوانها حماية بعض اللصوص في الإدارة، من المحسوبين على هذا الرئيس أو ذاك.
وشهدوا حروباً استهلكت صفحات في المفاضلة بين أزلام هذا الرئيس أو ذاك،
ولقد ذهبت الهيبة وتهاوت الصدقية وتكشفت الصفقات القائمة على قاعدة “هات وخذ” أو “أعطني فاعطيك”، ولم تعد للمواطن ثقة بأن الهدف من التطهير تحديث الإدارة أو تحسين أدائها.
… خصوصاً وإن المؤسسات القيمة على الشأن الإداري مضطهدة ومهملة، لا يسمع رأيها ولا يلتفت إلى اقتراحاتها، ولقد أقصيت عن التعيينات والتشكيلات ثم جيء بها الآن وبعد تهديدات بالاستقالة لتحمل جريرة التطهير!!
أي أن التعيين لغيرها والصرف الذي سيبدو تعسفياً، على مسؤوليتها،
مع ذلك نأمل ألا يقتصر التطهير على استبدال حسن الجحش بحسين الجحش،
ونسأل الله اللطف في الأضرار طالما أن الإنصاف متعذر والنزاهة في إجازة ريثما يكتمل مشروع الشركة العقارية لوسط بيروت التجاري،
والحمد لله أن العقوبة لبعض المعترضين قد اقتصرت على النقل فقط ولم تمتد إلى الإقالة مع التشهير،
وعساه لا يجيء تطهيراً يجعل الناس يترحمون على شارل حلو أو على أمين الجميل أو على كليهما معاً.

Exit mobile version