طلال سلمان

على الطريق الدولة.. أولاً وآخراً!

تكاثرت الاكتشافات في الآونة الأخيرة، وتعددت وتنوعت حتى باتت ظاهرة تستوجب وقفة تأمل وتحليل ومحاولة تفسير،
فلقد اكتشفت الدولة الجنوب،
واكتشفت “الأجهزة” – على اختلافها – الشيعة.
واكتشف حزب الكتائب الغلاء،
وبقدرة قادر وسحر ساحر تم الربط بين القضايا الثلاث فإذا المسؤول المجهول – المعروف هو الفلسطيني، فإذا ثبتت “براءته” من إحدى الجرائم أدين السوري فوراً، فإذا عز الدليل نسب الفعل إلى العرب كافة من خليجهم إلى المحيط.
أما “الجبهة اللبنانية” فناصعة الكف والضمير، وبحسب منطق جريدة “العمل” الكتائبية فإن “الجباية المشتركة” المفروضة على كل ساكن أو متحرك في مناطق هيمنتها هي إحدى الوسائل الفعالة ليس فقط لمكافحة الغلاء، بل أصلاً لبقاء النافع من لبنان القديم تمهيداً لقيام لبنان الجديد!
وبالطبع أغفلت “العمل” الحديث عن الموانئ والمرافئ “المشروعة” وغير “المشروعة”، وبواخر البضائع المهربة أو المنهوبة، والرسوم الجمركية التي تستوفيها نيابة عن الدولة (مع إضافة ضريبة المجهود الحربي)، باعتبار أنها والدولة حال واحد!
كذلك أغفلت “العمل” الحديث عن العدلية وما يجري من حولها، وعن الدوائر العقارية وما يجري فيها وعلى بابها،
وأغفلت الحديث عن طريق طرابلس – بيروت وحاجز البربارة الذي طبقت شهرته الآفاق، والذي “يأكل” كل شيء من الطحين إلى المازوت إلى البشر، ناهيك بالإسمنت والزفت والسماد الكيماوي!
وأغفلت، خاصة، الحديث عن الحرب الأهلية ودور حزبها الرائد والقائد فيها منذ تفجيرها في عين الرمانة وحتى اليوم، بكل ما نجم عن هذه الحرب من تهجير وتشريد واغتراب وتغريب وزيادة معدلات الهجرة والهرب من البلاد بحيث كادت تفرغ من الكفاءات والمهارات المهنية.. باستثناء محترفي القتل وقادة دبابات السوبر شرمامن التي عرضها بشير الجميل قبل أيام كمدخل إلى الوفاق الوطني!
فأما الدولة فبريئة تماماً وكيف يمكنها أن تحل مشكلة الغلاء وهي لا تستطيع أن تبعث بالخمسمائة جندي إلى صور والنبطية بسبب “تحفظ” المقاومة على قرارات تونس المعطوفة على قرارات بيت الدين المعطوفة على قرارات شتورا المعطوفة على قرارات قمتي القاهرة والرياض؟!
إن التصدي للغلاء، وفق منطق الدولة، يتطلق أمناً، والأمن يأتي من الجنوب أو لا يأتي. وفي الجنوب الشيعة، والشيعة يرفضون الوجود الفلسطيني، والوجود الفلسطيني مرتبط ومستند إلى الوجود السوري، والوجود السوري قرار عربي، إذن فلا خلاص إلا بحل دولي يتجاوز العرب عموماً ليحل مشكلة الشيعة فينقذ الجنوب ويعيده إلى لبنان السيد الحر المستقل، وعندها فقط تتراجع الأسعار ويتوفر الطعام لكل فم، وربما بالمجان!
“الأمن قبل الرغيف”، هذا هو الشعار الرسمي للدولة ولـ “الجبهة اللبنانية”، عال. ولكن الأمن يحتاج إلى “دولة” والدولة مشلولة وغائبة والبعض يتهمها بأنها تغيب نفسها في انتظار الآتي من … واشنطن،
وفي ظل غياب الدولة تأكل “الجبهة اللبنانية” الرغيف إلا بعضه الذي تتناتشه بعض التنظيمات المسلحة في المناطق الأخرى من لبنان، والأمن هو الثمرة الطبيعية والنتيجة العملية للحل السياسي للمسألة اللبنانية. والحل السياسي يتطلب وفاقاً وطنياً،
والوفاق لا يكون في ظل المدافع والدبابات وقطع الطرقات،
كذلك فإن الوفاق لا يمكن أن يتحقق ضد العرب، فليس ثمة لبنان بغير العرب، بغض النظر عن مدى الإعجاب بالأنظمة الحاكمة في هذه الدنيا العربية الواسعة، إذن، ما الحل للخروج من هذه الدوامة أو الحلقة المفرغة أو الدائرة الجهنمية التي لا تعرف لها بداية أو نهاية؟!
الحل هو في قيام الدولة.
والدولة قرار.
الدولة، وليس إلا الدولة، هي القادرة والمؤهلة وصاحبة الحق (إضافة إلى المسؤولية التاريخية والواجب الوطني) في توفير الحل وفي فرضه، إذا لزم الأمر.
الدولة هي القادرة والمطالبة بتنظيم العلاقة مع الأطراف جميعاً في الداخل والخارج، وحده الياس سركيس المؤهل والمفوض والمطالب – بحكم موقعه وصلاحياته الدستورية – بأن يرسي العلاقات مع سوريا، ومع المقاومة الفلسطينية، على أسس عملية سليمة، ووحده الياس سركيس المؤهل والمفوض والمطالب بأن يخرج البلد من هذه الدوامة المميتة بأن يعيد القوى السياسية المختلفة إلى أحجامها الحقيقية.
فهذه القوى، في الشرقية كما في الغربية، نمت على حسابه وحساب دولته، وكانت الدولة ولا تزال “تكش” هاربة من مواجهة مسؤولياتها حتى كادت تتحول إلى رمز شاحب مقام على جزيرة معزولة ومحاصرة على تلك التلة في بعبدا.
وبائسة هي هذه “الهيصات” و”التفجيرات المحسوبة” التي تلجأ إليها الأجهزة لتهييج الناس بقصد استغلال النقمة العامة وتوظيفها في الصراع ضد الفلسطينيين والسوريين وسائر “الغرباء” باستثناء “الدوليين” منهم، أي الغرباء فعلاً.
إن استنفار النقمة والشعور بالإحباط والضيق بالممارسات الخاطئة كان يمكن أن يفيد لو أن للدولة خطتها الواضحة لمعالجة المسائل والقضايا المطروحة والتي تمس حياة المواطن ورزقه، وجود الوطن ومصيره،
أما والدولة على عجزها وشللها الراهن وإصرارها على تغييب (أو تأجيل) قرارها إن كان لديها قرار ما، فإن هذا الذي يدبر ويجري سيظل يصب في طواحين القادرين على توظيف التحركات والهبات والعواطف والغرائز الشعبية.. وبالتأكيد فإن الدولة ليست بين هؤلاء القادرين!
وربط الأمور بلجنة المتابعة العربية ونتائج اتصالاتها يشبه بالضبط ربط معالجة الغلاء بكل أسبابه الظاهرة والمخفية (من الخوة إلى نهب موارد الدولة إلى قطع الطرقات إلى التهريب المنظم و”الرسمي”) بمكتب حماية المستهلك في وزارة الاقتصاد (وعدد موظفيه للمناسبة لا يزيد عن عدد أعضاء لجنة المتابعة).
إن الحل العربي مثله مثل الحل الدولي (إذا افترضنا أن تدخل الأجنبي هو الحل) يشترط وجود دولة يتعاطى معها، تكون سلطتها وسيادتها وقراراتها هي المنطلق وهي المرجع ونهاية المطاف.
كذلك الأمن: بدايته قرار من الدولة، بما هي السلطة السياسية المسؤولة عن الوطن وعلاقاته الدولية، عن أرضه وشعبه والمؤسسات،
كذلك الغلاء الذي يجسد في ذروته الراهنة، في جملة ما يجسد، الغياب المريع للدولة،
ولن تستطيع دولة عجزت في إقامتها القرارات العربية والدولية أن تقنع الناس بوجودها عبر اتخاذها موقع المتظاهر والمحتج على الغلاء، وإلا بقي ، من حق الذين في الشارع أن يقيموا دولهم كل في الزاروب الذي يهيمن عليه، وبقيت الدولة دمية يتقاذفها “أصحاب” الزواريب!

Exit mobile version