طلال سلمان

على الطريق الجرحان جرحك… والخنجر واحد!

جرحك هو الجرح، ولا عزاء “للشرقية” بأن “الغربية” قد غرقت بدماء الأبرياء وبسطاء الناس بعد 26 ساعة ودقيقتين فقط من موعد حدوث المذبحة الأولى في عين الرمانة… هما طعنتان في خاصرتيك، وأنت النازف أمس وقبله واليوم وبعده، وأنت وحلمك المطلوب موتكماً ولو بالتقسيط!
جرحك هو الجرح، ودمك هو المراق، تختلف الأسماء الأولى وتتقاطع الأسماء الأخيرة لأبناء الأسرة الواحدة، ويخيم الحزن على العاصمة المكلومة بالشطرين والضاحيتين، فالحزن هو الباقي من معالم وحدة الوطن، بل ويكاد يشكل حدوده والعلم!
وبين القتلى العديد من الرموز التي يحملها اسم “البربير”،
فالاسم أصلاً لمستشفى “دار الصحة”، ولقد التهمت الحرب المستشفى والتهمت همومها الصحة والدار ، وتحول بالحرب ومعها – اسماً لواحد من “المعابر” التي فرض على البشر أن يعتمدوها وسيلة لتأكيد صلات الرحم والانتماء الواحد لقدر واحد في بلد واحد،
والاسم من قبل كان لساحة مخلدة في تاريخ لبنان الوطني والقومي إذ كانت منطلق التظاهرات جميعاً، سواء منها المؤكدة لدور بيروت منارة العرب وعاصمتهم ونوارتهم، أو تلك الرافعة مطالب الاصلاح والطموح والتوق إلى الغد الأفضل.
وقاسية هي المفارقة على جيلنا أن يلتبس الأمر على أطفالنا فيحسبون من خلال الوقائع الجامدة إننا متسببون ومسؤولون عن إيصالهم إلى مثل هذا “الغد”، وأن الوقائع المفجعة التي نعيش تعكس حجم الخطأ في العقيدة أو في الأسلوب.
ذلك إننا لم نكن نملك، ولسنا نملك حتى الآن، غير لحمنا نفتدي به العقيدة، وغير لحمنا نفتدي به حلمنا في وطن حقيقي يكون لكل أبنائه، ويكون بهويته الأصلية عربياً، عربياً، عربياً. بغض النظر عن كل أولئك المتنصلين من انتمائهم القومي أو المارقين أو المتحللين من التزاماتهم القومية التي باسمها يحكمون العرب ويقمعونهم ويقتاتون بلحومهم نيئة.
جرحك هو الجرح، وأنت النازف في الحالين، ويشتد ألمك حين ترى دمك يوظف لقتال أملك ويُشهر عليك سيفاً لإجبارك على ارتياد طريق الغلط.
فأنت الناذر دمك لتدمير الطائفية وضرب مؤسساتها والتوجهات القاتلة. ترى نفسك ضحية مرتين تقتل باسم الطائفية ثم تقتل مرة أخرى حين “يرد” الطائفيون باسمك بقتل آخرين من الطوائف الأخرى فيجعلونك ويجعلونهم طائفيين محصورين في حلقة جهنمية مقفلة ولا خلاص إلا بمعجزة الثورة المستحيلة، في هكذا مناخ سائد في الداخل والخارج.
وأنت الباذل دمك من أجل حقك في وطن ومن أجل حقك فيه، ومن أجل حلمك في أمة عظيمة موحدة، تنتبه فجأة إلى أن لصوص الهيكل وتجار الشعارات والعواطف (ولقمة الخبز والمواد التموينية والبنزين) قد اختلسوا دمك ووظفوه في الاتجاه المضاد تماماً: من أجل الكانتونات اللاغية للوطن والحقوق ووحدة الانتماء إلى حلم الأمة الموحدة.
أنت طائفي، مذهبي، بالأمر!
يومك دمك، غدك وحلمك، كلها وقود تحرق من أجل كرامة الطائفة (المذهب) وكيانها ومكانتها ودورها وحقوقها المشروعة الخ…
لكن الطائفة (المذهب) تلغيك، تجعلك شيئاً كريهاً، تصادمك مع ذاتك، تتفهك، تنزلك من مستوى الأمة إلى مستوى الزاروب. من مستوى العقيدة إلى مستوى البدعة، وترئس عليك الأكثر انحرافاً والأنجح في الكذب والنفاق والأشطر في بيع لاحقوق العامة جميعاً من أجل حفنة من الدولارات أو من أجل كرسي مصنوع من أحلام البسطاء ومن لحوم أجسادهم المتعبة!
جرحك هو الجرح، وأنت النازف “هنا” و”هناك”، فأهلك القتلى والضحايا جميعاً في عين الرمانة والبربير والأمكنة الأخرى التي ستفجر فيها الألغام ضد وحدة الوطن ووحدة الشعب ووحدة الانتماء والمشاعر والطموحات العظام.
فالخنجر واحد، والقاتل واحد، والغرض واحد.
ولقد قيلت الأشياء واضحة وبالأحمر القاني: ممنوع فتح المعابر، ممنوع تلاقي المواطنين، ممنوع تواصلهم، ممنوع عليهم حتى العزاء الموحد، ممنوعة عليهم الوحدة في مواجهة وحش الغلاء أو في الحزن!
وقيل في جملة ما قيل : ليبق كل في كانتونه، وليحشر نفسه في الحزب الموهوم لطائفته المفترضة هوية وقومية ودولة ذات سيادة!! فممنوع الخروج على إرادة “أحزاب الله والوطن والعائلة”، وطالما إن وحدة المواطنين تستوجب إسقاط الرؤساء والمسترئسين وزعماء الحرب (وهم بين أغنياء الحرب أيضاً)، فلا بد من منع تجديد هذه الوحدة بأي ثمن،
وقيل في جملة ما قيل: إن القتلة سيمحون وجودهم بمزيد من القتل والقتلى، فهم وحدهم مصدر الأمن والأمان، هم وحدهم من يمنح لقمة العيش أو يمنعها، وهم وحدهم من يقرر شكل العلاقات بين الكانتونات وهل تكون على مستوى سفارات أم سيارات مفخخة.
على إن أخطر ما استوعبه الناس من دروس الكارثتين: إن الأمن يكون واحداً موحداً في بلد واحد موحد وعلى أساس صيغة سياسية واحدة موحدة، أو لا يكون أمن، حتى وإن نجحت خطة لبعض المدينة أو لبعض الجهات، فالمتضررون من الأمن سيضربون حيث يقدرون، وهم سيضربون في الجهتين إذا ما عز عليهم استدراج رد فعل من طبيعة الفعل حتى لا يكون أمن إلا بهم ومعهم وهم في موقع الرئاسة والقيادة التاريخية!
جرحك هو الجرح ولا عزاء لأحد على حساب الآخر، فالمصاب واحد، وأنت النازف في الحالين، والأبشع أن يفرض عليك التعاطي مع جرحك وكأنه جرحان في حين إن الجرحين جرحك.
وسنظل ننزف طالما بقي طريق الحل مسدوداً! ومن من المستفيدين بغياب الحل سيسمح بفتح المعابر؟! فالعابرون سيكتشفون في جملة ما سيكتشفون هوية قاطعي الطريق على الحل وبالتالي على إعادة توحيد الوطن والمواطنين.
والحل يتطلب رئيساً غير الرئيس الذي فرضه منطق الهزيمة الوطنية والقومية صيف 1982 كما يتطلب قيادة غير التي فرضها الانتصار لكرامة الطوائف على حساب كرامة الوطن ووحدته.
ولأن الحل لا يمكن أن يكون إلا عربياً فهو يتطلب مواجهة جدية وكاملة مع العدو الإسرائيلي وأدواته في الداخل،
فالحل لا يجيء إلا بشارة نصر وإأعلان نهاية العصر الإسرائيلي في لبنان، كمقدمة لانطواء صفحته على مستوى الوطن الكبير.
وبهذا المعنى فهو بعيد،
لكن السؤال الموجع: لماذا ندفع من دمنا كل يوم ثمن أبعاده أكثر فأكثر؟!
بائعو الخضار، الصائحون بأسماء الفائزين في اليانصيب الحاملون الحظ لغيرهم، الأطباء والممرضات، ركاب “السرفيس” ممن لا يملكون سيارات، الباقون على عنادهم بأن الوطن واحد وبأنهم قادرون على الربط بين العاصمة المفروض عليها الانشطار قسراً، الساعون لتأمين قوت عيالهم بعرق جباههم السمراء، أصحاب الدكاكين الصغيرة، الذاهبون إلى المستشفيات أو العائدون منها بعد الاطمئنان إلى صحة صديق أو قريب أو حبيب.
هؤلاء هو الضحايا ، في البربير
أي إنهم، مع تبديل بسيط في الأسماء، هم هم ضحايا الأمس في عين الرمانة.
فهل بعد هذا دليل على وحدانية المجرم في “المعبرين”؟
والمهم أن تعرف الثكالى جميعاً، وأن يعرف اليتامى والضحايا وذوو الضحايا، والذين لم يصابوا بعد وقد يصابون غداً، اسمه،
والمهم أن يتحد القتلى والمرشحون للقتل في مواجهة القاتل الواحد، فهذه خطوة مهمة على طريق تجديد وحدتهم – كمواطنين – ووحدة وطنهم،
وعندها لا يكون الدم المراق قد ذهب هدراً، ولا يكون القتلى قد قتلوا مرتين..
ويكون لنا جميعاً، هنا وهناك، بعض العزاء.

Exit mobile version