طلال سلمان

على الطريق أمير المؤمنين!

بين عروب يوم السبت 19 تشرين الثاني 1977 حين وصل “الرئيس المؤمن” محمد أنور السادات إلى القدس المحتلة مستسلماً ومغتالاً نضال ثلاثة أو أربعة أجيال من شعبه وأمته، وبين مساء الاثنين 21 تموز سنة 1986 حين استقبل “أمير المؤمنين” الحسن الثاني رئيس حكومة العدو الإسرائيلي شمعون بيريز، يمتد العصر الحزيراني ثقيل الوطأة كاتماً للنفس والصوت والفكر والفعل، بهيمي السواد، واعداً بمزيد من الآلام والضياع وفقدان الثقة بالذات إلى حد الاستسلام المطلق لمنطق الخيانة الصريحة والموصوفة.
وفي الحالتين فإن المقدمات كانت تبشر بالنتائج وتمهد لها:
فذلك الضابط النكرة في حسبه ونسبه بدأ رحلة الصلح المنفرد بعد شهور فقط من اقتناصه للسلطة بفضل المصادفة، وريثاً لعبد الناصر، وتحديداً في 5 شباط سنة 1971، واحتاج لكي يبلغ هدفه لأن يقبل نصيحة كيسنجر و”يتورط” في “حرب التحريك” المضيعة نتائجها والمهدرة دماء شهدائها في 6 تشرين الأول سنة 1973 بتداعياتها المنطقية المشهورة من ثغرة الدفرسوار إلى محادثات الخيمة في الكيلو 101، وصولاً إلى “كسر الحاجز النفسي” بالزيارة – المبادرة وانتهاء بمعاهدة كامب ديفيد ودائماً برعاية الولايات المتحدة وفي كنفها بالذات.
وسليل “الأسرة العلوية الشريفة”، ابن السلطان محمد الخامس ووارث العرش المغربي العريق (أكثر من ألف عام) بدأ رحلته الموازية والمتممة لرحلة خدينه السادات، منذ بداية السبعينات، وجاهر بأنه كان الحاضنة للقاءات التمهيدية لزيارة العار، وإنه استضاف العديد من المسؤولين الإسرائيليين بينهم موشي دايان ورابين وبيريز نفسه الذي يلتقيه الآن للمرة الثالثة عملياً والأولى علنياً ودائماً فوق أرض “المملكة الشريفية”.
وكما كان لزاماً على السادات أن يبدأ رحلته بضرب شعبه في الداخل، وضرب روابط مصر بأشقائها وحلفائها وأصدقائها في العالم، وتدمير الاقتصاد الوطني واعتماد سياسة الانفتاح التي تسببت في تجويع شعب مصر الفقير أصلاً.
كذلك فلقد كانت مقدمات رحلة الملك المفخمة ألقابه وصفاته بأكثر مما تضم أسماء الله الحسنى، ناطقة عبر ممارساته في الداخل والتي اتسمت بالقمع والقهر والسحق المستمر للقوى الحية والواحدة في المجتمع المغربي والافقار المنهجي الذي يذهب بالقدرة على التفكير إلا بالهم اليومي الضاغط، فكيف بالقدرة على الاعتراض والمعارضة ناهيك بالمقاومة المباشرة؟!
على إن الفارق في معاملة الشعب يظل نوعياً تماماً كالفارق بين رئيس من الدهماء و”الخليفة” الذي يصنف نفسه في مرتبة الأباطرة، وهكذا تميز الحسن الثاني بالقتل المباشر والإعدام بالجملة لمعارضيه، من المهدي بن بركة إلى رموز النضال الشعبي وأبطال حرب التحرير الشعبية وانتهاء بأدواته وصنائعه الذين كان يقدمهم كبش فداء كلما لزم الأمر أو كلما زاد نفوذهم عن حد معلوم.
فحتى “أمير المؤمنين” لا يستطيع أن يرتكب فعلة الخيانة إلا إذا ألغى شعبه وأغرقه في متاحات الجوع وحروب القضايا المصطنعة والمزيفة والمضيعة للطاقة والجهد وما تبقى من خبز.
وكما انتهى “بطل حرب العبور” عدواً لمصر يخرج من بين صفوف شعبها المؤمن حقيقة من يقتص منه ويزيله من الوجود، فإن “رئيس لجنة القدس” يندفع قدماً على طريق الخيانة بحيث يكاد يصبح السمسار المعتمد رسمياً لصفقة نقل ملكية فلسلطين، بما فيها القدس الشريف والمسجد الأقصى، من العرب إلى اليهود، ودائماً برعاية الولايات المتحدة ومباركتها.
… من غير أن ننسى إن دماء آلاف من الرجال المغاربة قد روت أرض فلسطين، بين 1947 و1973، وبعضهم جاء إلى “الحرب الأولى” سيراً على الأقدام ليمنع الحملة الصليبية الجديدة من استباحة أولى القبلتين وثاني الحرمين،
أما المغاربة الآخرون الذين تركهم العرش المغربي يدخلون في عداد مستبيحي القدس فهم الآن بين ضيوف الملك الدائمين وبين النماذج التي يعدنا بها لذلك المزيج العبقري من الطاقة العربية والذكاء اليهودي!
مع انتهاء زمن الثورة انتهى زمن المفاجآت وسقطت قدرة حكامنا على إدهاشنا لأننا بتنا نتوقع منهم في كل يوم الأسوأ كما سقطت من الذاكرة التوصيفات الحادة للأفعال الشنيعة التي لم يكن يقبلها العقل السوي كالخيانة.
فالاسم الرسمي للخيانة الوطنية والقومية الآن، هو “السلام”،
والاسم الرسمي للانحراف والتفريط بالأرض والكرامة هو “التسوية الثابتة والعادلة والدائمة لأزمة الشرق الأوسط”.. مع ملاحظة إن الإكثار من الأوصاف المطمئنة إنما يستهدف طمس معالم الجريمة وتزييف يقينك عليك.
ألم يكن هذا بالضبط هدف قمة فااس الأولى التي أرادها الحسن الثاني خيانة بالإجماع، ثم كاد ينجح في فاس الثانية في تمريرها ولو مموهة ومخبأة داخل العباءة السعودية؟!
ومن المفارقات أن يستقبل الحسن الثاني بيريز في إيفرن بالذات، حيث حشر حكام عصر الهزيمة العربية في شاحنة طافت بهم لكي يتفرج عليهم الجمهور المغربي المحتشد احتفاء بعيد ميلاد “ظل الله على الأرض”..
ومن المفارقات، وما أكثرها، أن تكون فاس عاصمة الانكفاء العربي في العصر الحديث، وهي المدينة التي انكفأ إليها العرب المهزومون والمخرجون من الأندلس قبل خمسة قرون،
.. على أن شمعون بيريز قد راعى ضرورة البروتوكول فانتقل ومعه الكنيست الصهيوني للقاء “أمير المؤمنين” بينما فرض مناحيم بيغن على “الرئيس المؤمن” أنور السادات أن يقف مستسلماً ومخذولاً أمام الكنيست في القدس الشريف.
ويبقى أن نعيد ونكرر ما قيل في أعقاب “الزيارة” الأولى: إن السادات وصل إلى القدس بقوة دفع النظام العربي الواحد، حتى لقد قيل إن حكامنا جميعاً كانوا معه في الطائرة، وإن طائرة شمعون بيريز ما كانت لتقطع كل هذه المسافة الفاصلة بين المسجد الأقصى والمغرب الأقصى لولا إن حكامنا جميعاً طأطأوا رؤوسهم حتى لا تصطدم بها،
ويبقى أخيراً أن نتوقع طوراً جديداً، لعله الأفظع في دمويته ووحشيته، في الحروب الأهلية العربية الدائرة في أكثر من قطر عربي، أبرزها حالياً لبنان،
فالخيانة تخفى عادة في طوفان من الدم يسفح في مكان آخر
ولبنان الذي لا يزال يعيش العصر الحزيراني المجدد بغزو 1982 هو المرشح، مرة أخرى، لكي يكون الضحية، ومعه ما تبقى من النضال الوطني الفلسطيني،
و.. حفظ الله أمير المؤمنين والرؤساء الآمنين، وحمى من تبقى منا شر مثل هذا “الإيمان” القاتل!

Exit mobile version