طلال سلمان

على الطريق أبعد من النقد الذاتي…

أحس الضحايا من أهل بيروت، أمس، بقدر من الراحة، وهم يتفرجون على لقاء بري – جنبلاط، ويسمعان منهما مباشرة، ومن بعض شهود الحال، ولاسيما المفتي قبلان، ما سمعوه من “نقد ذاتي” ولو مبتسراً، وكذلك من نقد مرسل، ولو مختصراً ومضمراً ومخفف الوقع.
فالتعزية تجبر بخاطر أهل الفقيد وإن ظلت أعجز من أن ترده إلى الحياة.
ومريح هو الحديث عن الحاجة إلى “التطهير الذاتي” يصدر عن قيادتي حركة “أمل” والحزب التقدمي الاشتراكي، بينما الشكوى من فساد الممارسة بلغت ذروتها،
ومريح أيضاً حديث الرجلين عن “الاختراقات” في تنظيميهما، وعن ضرورة ضرب “العابثين” بأمن بيروت وأرواح الناس فيها وأرزاقهم، “والمصطادين في الماء العكر”.
ومريح أيضاً وأيضاً الوعد بأن المشانق ستنصب للمتجاوزين والمخالفين ومستغلي اسم الحزب والحركة.
ومريح، على وجه الخصوص، الاعتراف بأن ما جرى خلال الأيام الخمسة الماضية (حتى لا ننسى الأمس)، قد أساء إلى الوطنيين عموماً وقضيتهم، إضافة إلى عاصمتهم أو ما تبقى منها.
ومريح، أخيراً، الاعتراف بالخطأ، في انتظار التراجع الذي يكسبه معنى الفضيلة.
على أن الراحة النسبية التي استشعرها الناس لا يمكن أن تعمر طويلاً إلا إذا دعمها قرار يحول الاعترافات جميعاً، والتمنيات والوعود، إلى منهج متكامل للتعامل مع بيروت وأهلها (واللبنانيين عموماً) بما يحمي قضيتهم وتطلعهم إلى حياة بائسة ولكن عادية، وطموحهم إلى مستقبل أفضل، ناهيك بالأرواح والممتلكات.
والناس لا ينتظرون تجديد الوعد الذي سمعوه غير مرة من قبل، وأصبح لازمة منطقية تجيء في أعقاب كل اشتباك جديد بين مسلحي التنظيمين الحليفين.
هم ينتظرون إنجاز الوعد الذي استولد وعوداً، كما ينتظرون انتهاء عصر الخطأ الذي يفرخ أخطاء، وإلا ظلت الوعود والاعترافات مجرد هدنات تفصل بين موجتين من الاشتباكات ثانيتهما أضرى وأشرس وأكثر وحشية وأعظم تدميراً للناس والممتلكات، للقيم والشعارات الجليلة، من سابقتها،
إن الاعتراف بالخطأ لا يسقط الحق بالسؤال عن أسبابه وعن ضمانات عدم تكراره، والاعتراف بالتجاوز لا يلغي ضرورة وقفه فوراً، ومهما كان الثمن، والتوكيد على أن ثمة “مندسين” و”عناصر مشبوهة” و”متآمرين” تسللوا إلى التنظيم لا تعفي القيادة لا من مسؤوليتها عن “الخرق” ولا عن استمراره وتفاقم مخاطره ولا عن “التسهيلات” التي تتوافر أكثر فأكثر لأولئك “المصطادين في الماء العكر”.
للمناسبة: نحن نعيش في “الماء العكر”، نختنق بهوائه العفن، ونجاهد للاحتفاظ برؤوسنا فوق حافته.. ألسنا كلنا ممن فرض عليهم الاستيطان في المستنقع الطائفي الأسن، فلماذا إذن نلوم من “يصطاد” ولا نلوم من فرض علينا الإقامة الجبرية في الحماة الطائفية القاتلة؟!
ثم إنه لا مخرج بالأمن والعسكر والميليشيا من هذا المستنقع، ولا سبيل إلى خلاص إلا بوسائل أخرى غير هذه تماماً، بل نقيضها إلى حد كبير، ولقد جربتها شعوب قبلنا فانتصرت.
بين تلك الوسائل : الرؤية السياسية الواضحة، التوصيف الدقيق للواقع ولأهداف المستقبل، التعبئة الشعبية الواسعة ببرنامج نضالي يتسع لطموحات الناس وأحلامهم وحقهم في الحرية والديمقراطية ويعبر عن احترام الإنسان كقيمة هي الأسمى والأبقى.
وبين تلك الوسائل: تنظيم من الصعب اختراقه، لأن قيادته تعي أن صلابة العقيدة عند المنضوين تحت لوائه أهم من أعدادهم، وإن الوعي أهم من الاستجابة العاطفية (فكيف بالغريزة)، وإن الإيمان بالشعب، بالناس، هو البداية وهو النهاية.
فالوطن ليس الأرض، جبالها والوهاد والسهول والمنبسطات والسواحل الجميلة، ليس الشجر والنهر والبحر والصخر (الذي انفرد اللبنانيون – اللبنانيون بادعاء طمنه واعتماده طعاماً)…
الوطن الشعب، الأب، الأم، الأخت، الأخ، الحبيبة، الابن، الطفلة، الجد، الصديق، الرفيق، شريك العمر وحامل الضيم ومؤنس الوحشة، مقتسم الرغيف والبسمة معك، ماسح دمعتك متى تألمت، مداوي جرحك، مقيل العثرة، وزميل النضال من أجل تحقيق الحلم البهي ذاته للناس جميعاً، الأخوة في الأرض والانتماء والمصير.
وعبر التاريخ تعلمنا أن القيادات مهما كانت طيبة النوايا وصادقة الرغبة في التغيير في اتجاه الأفضل تسقط بمجرد أن تهمل الناس أو تنصب نفسها وصية عليهم، لها حق القرار بالمطلق وليس عليهم غير الطاعة وتقديم الولاء.
وعبر التاريخ والواقع تعلمنا أن الإنسان الذي لا يتحقق من احترام قيادته له، لفكره وتطلعاته ومطامحه وحقوقه البديهية، سرعان ما يتركها بحثاً عمن يأخذ بيده ويرشده ويناضل معه لتحقيق ذاته، وأساساً لتحقيق إنسانيته.
فلا قيمة لأي وطن بلا ناسه،
فكيف بالتنظيمات أو بالقيادات متى رفعت نفسها فوق الوطن، واعتبرت الشعب مجرد رعايا أو حاشية لا قيمة لرأيه ولا دور له وإنما ينفذ ما يقرر له بالنيابة عنه وباسمه دائماً: يدفع الضريبة صاغراً من غير أن يشكو، ثم لا يفرح إلا متى أمر بأن يحتفل بالنصر الذي جاءه من غامض علم الله، وبفضل عبقرية القيادة الملهمة التي تسهر على مصالحه العليا.
وبالصداقة كلها نقول للأستاذين نبيه بري ووليد جنبلاط : إن الناس يريدون أن يصدقوكما، ويتمنون أن تنقذا ما تعهدتما به، ولو متآخرين ويحرصون على حماية التحالف بين “أمل” والاشتراكي وسائر القوى الوطنية والتقدمية والقومية، أشد الحرص،
لكن الناس يحاكمون ما يصدر عنكما في ضوء وقائع الأيام الصعبة التي عاشوها، مرة ومرتين وثلاث مرات، والتي يخافون أن تتكرر حتى لا يتبقى ثمة ما يستحق النضال من أجله.
لقد تحمل الناس ويتحملون الكثير، وما زالوا مستعدين للتحمل إذا ما تحددت الأهداف وتحدد البرنامج وخطة العمل والمنهج وأداة النضال،
لكنهم ليسوا مستعدين لأن يموتوا مرتين من أجل أن يتعذر على أبنائهم تحقيق الحد الأدنى من حقوق الإنسان.
فليكن ما حصل جرس إنذار أخير.
وليتم الالتفات للتثبت من صحة الطريق وسلامة الهدف، والأهم: سلامة الإنسان الذي يفترض أن تكون غاية النضال تحقيق آماله في أن يكون “الشعب السعيد في الوطن الحر”.

Exit mobile version