طلال سلمان

عـلـى الطـريـق جمهورية بدول كثيرة.. ولا شعب؟!

من حق المواطن في لبنان أن يخاف كثيراً على حاضره ومستقبله،
إنه يفتقد الآن الإحساس بالأمان،
بل إنه يشعر وكأن ثمة من يريد أخذه أو دفعه من جديد إلى الحرب، بينما هو ما زال يتلمس طريقه للخروج منها وجراحه على صدره وجبينه لما تلتئم تماماً.
ولعل أخطر مصدر لخوفه هو أهل الحكم الذين كان يفترض، أو كان يحاول التصديق أنهم إنما يحاولون مساعدته في الوصول إلى السلم الأهلي عبر ما يسمى، مجازاً، “الجمهورية الثانية”،
فها هي “الجمهورية الثانية” تتصدع وتكاد تتهاوى تحت وطأة الأزمات التي ورثتها عن الحرب، أو تلك التي استولدها عجز قادتها من أهل الحكم فيها عن النهوض بأعباء بناء الدولة فيها.
وبين الحقائق التي كشفتها أزمة الحكم الراهنة أن “الجمهورية الثانية” قد تصدعت لكثرة ما اقتطع منها لحساب “دول” أهل الحكم فيها.
إنها جمهورية بدول كثيرة داخلها،
والمواطن خارج تلك الدول جميعاً، ولكنه في الوقت ذاته لا يستطيع الوصول إلى “جمهوريته”.
بالمقابل فإن أهل الحكم خارج تلك “الجمهورية” بل ويتآمرون عليها، يومياً.
إن المواطن يتيم، بلا نصير، وكذلك “جمهوريته” العتيدة.
والمواطن متهم في عقله كما في كفاءته وحتى في إخلاصه لبلاده،
فأهل الحكم يعتبرونه “قاصراً” لم يبلغ بعد سن الرشد، ويتهمونه بالكسل والعزوف عن العمل، والاستنكاف عن المساهمة في إعادة الإعمار،
كذلك فأهل الحكم يوجهون إلى “الجمهورية الثانية” تهماً خطيرة بينها العقم، وتصدم الأساس الدستوري، وقصور الصيغة السياسية عن استيعاب التوازنات الدقيقة التي تفرضها الموجبات الطائفية والمذهبية.
وأهل الحكم أقسى على جمهورية الطائف من خصومها والمطرودين من جنتها،
رئيس الجمهورية يرى أن دستور الطائف قد جعله مجرد شاهد زور،
ورئيس مجلس الوزراء يرى أن ذلك الدستور قد أخذ منه باليمين ما أعطاه باليسار، لأنه جعل “الوزراء” شركاء له باعتبارهم أطرافاً سياسيين، وأخضعه لسيف المجلس النيابي الذي لا قيد على حركة “رئيسه” ولا مجال لتخويفه أو لجم اندفاعاته بالتهويل بحله.
ورئيس المجلس النيابي يعتبر أن أي تعزيز لسلطة الحكومة لا بد أن يجيء على حساب المجلس، فالمديث عن الصلاحيات الاستثنائية يكاد يعادل حل مجلس النواب،
هذا في “الفقه”، أما الخلاف الحقيقي هو حول حجم “دولة” كل من أطراف الحكم، وحجم كل “صاحب دولة” في الحكم ذاته: من هو الأول فعلاً، ومن هو “الثاني”، ومن هو “الثالث”، وكيف يمكن قلب المعادلات والمواقع بمعزل عن البروتوكول والأصول الدستورية.
من هو حاكم هذا القطيع اللبناني الذي يرى نفسه بلاحكم وبلا دولة، لاسيما كلما اشتد صراع الرؤساء على موقع “الحاكم الفعلي”.
لقد قيل لالياس الهراوي: أنت رئيس جمهورية استثنائي…
لكنه وجد أن دوره أكثر من استثنائي في حين أن صضلاحياته – كحاكم فرد – أقل من أن ترضي طموحاته ورغباته.
وقيل لنبيه بري: أنت رئيس مجلس استثنائي،
ولكنه كلما حاول ممارسة الدور الاستثنائي اصطدم بالاستثنائيين الآخرين،
وقيل لرفيق الحريري: أنت رئيس مجلس وزراء استثنائي،
ولكنه بالممارسة اكتشف أنه لا يستطيع اتخاذ القرارات الاستثنائية، وأنه مضطر لأن يحصر دوره في المساحة الفاصلة بين المخالفة الدستورية والخروج على المعادلة الطائفية أو المذهبية، وهو وإن نجح في ردم البحر كله فإنه أعجز من أن يردم هذه المساحة.
وحده المواطن بقي “عادياً”، وإن تكاثر على كتفه الرؤساء والقادة الاستثنائيون!
هي “الدول” إذن، لا مؤسسات الجمهورية قيد التأسيس.
إنهم “الاستثنائيون” إذن، وفيهم إلى جانب الرؤساء عدد من الوزراء الذين استمدوا استثنائيتهم من عراقة البيوتات “التاريخية” التي يتحدرون منها، أو من طبيعة الدور “الجغرافي” الذي لعبوه في الحرب والتي كانت في بعض أبعادها “ديموغرافية”،
إنهم أكثر وأخطر وأهم وأعظم من أن يستطيع تحملهم والقيام بواجبهم بلد صغير وفقير وقليل الموارد كلبنان، وشعب خامل وكسول يريد الثروة بأسرع وقت وبأقل جهد كاللبنانيين.
إنهم استثنائيون في بلد يرى كل مواطن فيه أنه “استثنائي” وفريد في بابه، وأن لا مثيل له في العبقرية والنبوغ والإبداع، على امتداد الكون.
من هنا فالأزمة مرشحة لأن تطول وتتعقد، لأن أحداً من الرؤساء والقادة لن يتواضع فيعترف بالمؤسسة التي يمثل ، أو بالشعب الذي يحكم!
لهذا يجلس الوزراء في بيوتهم ، قريباً من التلفزيون، ليعرفوا آخر أخبار الأزمة، ومساعي حلها، تماماً كخصومهم النواب، وكجمهور المتضررين منهم ومن صراع الرؤساء أي مجموع اللبنانيين.
وقد يبادر بعض الوزراء (أو النواب) إلى الاتصال بمصرف لبنان ليطمئن إلى حجم تدخله في سوق القطع، وهل أطلق العنان للعبة المضاربة الجهنمية بالدولار على الليرة أم لا يزال التحذير من مس ما لا يمس قائماً ونافذاَ.
إنها عركة على مزبلة، ولكنها تهدد السفينة التي يتعارك على ظهرها الجميع بالغرق.
وهي “عركة” خارج كل قوانين الصراع السياسي، ديموقراطياً كان أم غير ديموقراطي، فالضرب تحت الزنار مباح، والتنابز بالألقاب “شرعي”، وتبادل التشهير بالأمهات والزوجات والشقيقات بين إنجازات الطائف وركائز جمهوريته الوليدة.
والمواطن يصدق الجميع، بل إنه يستزيدهم، فكلما ترنم أحد الرؤساء بسيرة أقرنه هتف به الناس من حوله: الله، الله، أعد!
فلا أحد من أهل الحكم فوق الشبهات،
وكلهم متهم في ذمته المالية حتى تثبت براءته، وهي لن تثبت، وذلك في تقاليد الحياة السياسية اللبنانية منذ إقامة الكيان وابتداع النظام الفريد،
كل مسؤول مستغل نفوذ، و”قاشوش” يمون على المال العام ويحسن الدمج بين المصلحة الخاصة والمصلحة الوطنية العليا،
لذلك فمن الصعب الانحياز إلى أحد المتعاركين إلا وفق إحدى القاعدتين الخالدتين: المنفعة الشخصية المباشرة أو الغريزة الطائفة المرهفة!
وبين هذه وتلك تندثر أعرق جمهوريات الأرض وتتهاوى الإيديولوجيات وتنسحب الديموقراطية إلى جحرها مدحورة!
.. ولأن لبنان بلد بلا داخل، وصيغة الحكم فيه استثنائية، فإن الأزمة الحكومية فيه “خبر عالمي” تطيره الوكالات بصيغة “عاجل”، وتهتم له “الدوائر الدبلوماسية”، ويعلق عليه “الخبراء في شؤون الشرق الأوسط”.
وهكذا يجد شمعون بيريز من حقه التعليق على الحدث، مقدراً أن استقالة الحكومة خسارة للبنان، وإن نسب أسبابها إلى الشأن الاقتصادي أكثر منه إلى الشأن السياسي.
كذلك يبدي ولي عهد الكويت سعد العبد الله قلقه على لبنان متمنياً على الحريري الاستمرار في أداء مهمته الجليلة في إعادة إعماره،
وإضافة إلى مسؤولين أميركيين ومصريين بارزين، توجه صحيفة “الجزيرة” السعودية النصح إلى اللبنانيين بالحفاظ على الحريري بوصفه صمام أمان وضمانة لاستقرار سعر صرف الليرة.
أين هموم المواطن العادي من كل ما يحدث؟!
أين موقع الضائقة الاقتصادية، وعجز الموازنة، وبؤس الأجور، وارتفاق الأقساط المدرسية وغلاء الأسعار، وانعدام الرقابة على تنفيذ المشروعات الإنمائية التي تملأ لافتاتها المنعطفات، ويجبر المواطن على قراءتها ألف مرة في اليوم بسبب من أزمة السير المنهكة والحفريات التي حولت الشوارع إلى برك وأفخاخ مميتة للسيارات والمشاة.
أين هم المصير في مواجهة الاجتياح الإسرائيلي الآتي باسم “السلام” وما هو بسلام؟!
أين المؤسسات، اين الإدارة، أين الكهرباء، أين الهاتف، أين الطرق.. وباختصار أين الدولة؟!
مفهوم أن “تغيب” الدولة متى اختلفوا، ولكن أتراها تحضر متى اتفقوا، وهم – عادة – لا يتفقون إلا عليها؟!
وهل تبقى بعد الذي كان والذي قيل خلال الأيام القليلة الماضية أي أثر للدولة والمراجع، ناهيك بالمؤسسات؟!
حمى الله لبنان!

Exit mobile version