في الميدان سقط الفارس، لكن سيفه ظل مُشهرù وضاءً كعمود من نور.
رحل عصمت سيف الدولة، الرجل الذي استمر يفجر في لجة اليأس منابع للأمل، ويرفض الاستسلام لا مكابرة بل إيمانù بأن في الأمة عافية وزخمù وطاقات هائلة لن تذهب بها انحرافات الحكام ولا هذه الاستكانة المؤقتة التي أشاعها تعب الثوار القدامى واستقالتهم من احلامهم وانقلابهم على ما كانوا يبشرون به وعلى من صدقهم من الناس فانخرطوا في النضال.
من قبل الرحيل بزمان طويل كان عصمت سيف الدولة قد تخطى بفكره حدود »الشخص«، فبات حركة ناشطة لها اهلها في معظم الأقطار العربية… وتحولت كتبه الى منشورات خطرة تكافح كما المخدرات ويعتقل موزعها وناقلها وقارئها وسامعها بوصفهم مصادر للخطر على الامن القومي والسلامة العامة.
من مكتبه في قلب قاهرة المعز، كان عصمت سيف الدولة يفوض نفسه، وهو المحامي الكبير، بصلاحيات القاضي المسؤول عن كرامة الامة وجدارتها ومناضليها الشرف: يوكل نفسه عن المضطهدين داخل مصر كما في مختلف أرجاء المشرق العربي والمغرب العربي، ويذهب فيواجه أنظمة الردة والطغاة والمروجين للتفريط واتفاقات الاذعان.
كان الانسان العربي قضيته.
وحتى اليوم الاخير ظلت الثورة، فكرù ودعوة وتعبئة وتحريضù، برنامج عمله اليومي.
كتب آلاف الصفحات، وجاب دنيا العرب محاضرù، مناقشù، كواحد من الصحابة المكلفين بالتبليغ،
ووقف في عشرات المحاكم يرافع عن »القضية«، محولا قضاة السلطان الى متهمين وكاشفù الصورة الاصلية للسلطان ذاته فاذا هو طاغية او مارق يتوجب الخروج عليه بالسلاح.
ولأنه رجل قانون فقد كان يحاول حماية شرف القانون، فيتصدى لمحاولة ابتذاله وتسخيره لخدمة الأغراض والأحقاد وقمع الحريات وتبرير الطغيان وتزيين الخيانة.
ولأنه فارس نبيل فلقد كان يرفض الصمت على تواطؤ الحاكم ضد الدولة ومؤسساتها، وكان يجتهد في استنقاذ فكرة الدولة وحماية المؤسسة من مخاطر التهديم والتزييف وتحوير دورها بحيث تصبح معادية للناس الذين انشئت من اجلهم والذين يقتطعون من قوتهم ثمن ادامتها.
ولانه مؤمن بالانسان وبحقوقه في التعبير عن نفسه وممارسة حريته، فلقد انتدب نفسه للدفاع عن مختلف انواع المضطهدين بسبب افكاره: من »الاسلاميين« الى »الناصريين« ومن »الشيوعيين« الى »الوطنيين التقليديين«.
ربما لهذا كله فقد تخطى عصمت سيف الدولة دور الرجل او الداعية فصار تيارù وفاخر عديدون من الرجال وفي اكثر من قطر عربي بأنهم »عصماويون«، لانهم آمنوا بدعوته ووجدوا انفسهم في أفكاره، وأفادوا من كتبه ومن مقالاته العديدة لبث الدعوة الى التغيير… ولم تكن مصادفة أو نتيجة أخطاء في التقدير ان قدم الكثير من الرجال الى المحاكمة في اكثر من عاصمة عربية يحكمها طاغية، بتهمة الانتساب الى أفكار عصمت سيف الدولة.
روح مصر العربية، أو روح العروبة في مصر، مع انفتاح على الفكر العالمي المتقدم: لا هو متحجر أو متعبد لصنم التاريخ، ولا هو فاقد لهويته مندفع مع موجات التحديث التي تدفع الناس الى التغرب وخيانة الذات.
كان اسمه هوية،
وبرغم الانتكاسات وسيادة مناخ الهزيمة والانكسار، فقد ظل عصمت سيف الدية يقاوم مرارات العمر والمرض وموجات اليأس المتلاحقة حتى اللحظة الاخيرة،
ومؤكد انه مات والقلم في يده، يكتب لاجيال آتية مبشرù بفجر جديد، بهي ومضمخ بدماء الشهداء، ولائق بكرامة الانسان العربي، في القرن الحادي والعشرين.
القاهرة أقل وهجù الآن، بعد انطفاء هذا القبس المتوهج والذي ظل يبشر ويحلم ويستولد آمالا عظيمة من قلب الآلام العظيمة حتى توقف قلبه الكبير فأودع سيفه كتابه الاخير هاتفù بالناس من حوله: لا تتوقفوا، هيا اكملوا المسيرة نحو النصر العزيز والبعيد!