دولة لبنان هي عروبة لبنان. دولة ذات سيادة وإستقلال وشرعية. بالسياسة تتحقق الشرعية، اذ يرضى عن الدولة أهلها، ويتعزز مفهوم الدولة في الفرد، وتصير الدولة جزءاً من الفرد، ويصير دفاع الفرد عن الدولة دفاعاً عن نفسه.
الدولة ليست النظام، النظام سلطة فيها تراتبية طبقية وأجهزة قمعية. طبقة الرأسمال المالي تمسك بزمام الأمور. الأجهزة تفعل ما هو مطلوب منها داخلياً وخارجياً. تتحول السلطة إلى دولة بالشرعية. عندما تفقد الدولة شرعيتها تتحول إلى سلطة، ويكون القمع فيها مطلقاً شاملاً، ويكون الإستغلال فيها من دون حياء أو مراعاة للإنسانية.
مع تقادم الزمن يصير لبنان دولة، هي في الاصل دولة مصطنعة. كل الدول مصطنعة، يصنعها البشر. ما من دولة طبيعية. ما من دولة وجودها ضرورة منطقية أو إرادة طبيعية، أهلها يجعلونها ضرورة. إرادة الناس أن يعيشوا سوية، وأن تكون الدولة إطاراً ناظماً لحياتهم وصراعاتهم وسياساتهم وحرياتهم وتسوياتهم المتراكمة. الصراع يكون في الدولة. قي إطارها لا عليها. الصراع على الدولة يحولها إلى نظام . النظام يلغي الدولة، يحوّل ما تبقى منها الى حرب اهلية. معنى الدولة هو عندما يكون منغرزاً في ضمير الناس،، وهو الضمانة الوحيدة ضد الحرب الاهلية. ضد الفوضى، ضد العصابات، ضد أمراء الحروب.
كل الدول نشأت بالغلبة، داخلياً او خارجياً، كل الحدود رسمت عشوائياً. ما كان الامر عليه صار شيئاً آخر مع تقادم الزمن. الشرط الوحيد إرادة الناس. الدولة لا شرط عليها. لا نعت لها، لا صفة لازمة لها، هي دولة فحسب . هي شرط لما عداها. النظام هو الذي يكون قوياً او ضعيفا، فاسداً او مستقيماً، مستقلاً او غير مستقل، ذا سيادة او مخضعا. يفعل الناس كل ما يمكن لإزالة شوائب النظام كي يصير دولة. هم يريدون دولة حتى ولو كان نظامها ذا شوائب.
الوطن مفهوم جغرافي. الامة مفهوم إيديولوجي . العروبة واقع لا مفر منه. ليست العروبة فكرة كي تجيء وتذهب. نحن عرب وحسب “الامة موحدة” اثبتت ذلك ثورة 2011 . نبض واحد من المحيط الى المحيط. الوحدة العربية تضعها الدولة بارادة ابنائها.
في الديمقراطية والحرية يعيش الناس سوية، ويشاركون في القرارات والسياسة، وفي ادارة اقتصادهم، كي يصنعوا مستقبلهم. يشارك الناس في السياسة، اي في الدولة، عندما يقتنعون بان المصير لا يصنع في السماء او في باطن الارض، لا الدين ولا النفط. العلمانية ليست نقيض اي شيء بما في ذلك الدين. هي اقتناع الناس بانهم يشاركون في صتع مصيرهم ومستقبلهم. العلمانية هي تحقّق الدولة. الايمان بمختلف القضايا الميتافيزيقية والقوى فوق الانسانية لا شأن له بالدولة، ويمكن ان يتعايش معها.
الممارسة مأزق وتخبط عشوائي اذا لم تنتظم. التنظير والتفلسف شرطان للممارسة. النظرية الصحيحة ليست مبدأ لا يتغير. صلابة المبدأ ليست اخلاقية، ناهيك عن الروح العملية. ترتقي النظرية من الخطأ إلى الصواب. تعتمد أساساً على الاعتقاد ان رأيي صواب يحتمل الخطأ، وان رأي الخصم خطأ يحتمل الصواب. الوصول الى النظرية الصحيحة يكون بازالة الخطأ. الاخلاق هي الالتزام بازالة الخطأ. تتقدم النظرية، وتتقدم المبادىء مع التطور الفكري والعقلاني والفلسفي. يتطلب ذلك مستوى عالياً من النزاهة الفكرية التي تقول بالخطأ عندما تراه. امّا المبدأ الثابت فاصرار على خطأ يراد تثبيته.
الممارسة النظرية ضرورية من اجل الدولة والبشر المقيمين فيها والمشاركين فيها. مارست اجيال من المثقفين أخطاء متراكمة بحق العروبة عندما لم تفكر قبل الممارسة، ولم تستطع ان تجد الافكار والنظريات والفلسفات المناسبة للعروبة. ليس القول هنا ان الحقيقة هي هذه ولا محيد عنها. الحقيقة ايضاً تصنع وتتركب من جملة حقائق وتسويات مع الواقع. خطأ النخب العربية الاهم كان وما يزال هو ان الامة بنظرهم كيان ميتافيزيقي. مقولة عليا تتجلى بين الحين والحين، وعلينا احياؤها. هناك فرق بين القول بالاحياء والقول بالصنع. الاحياء بمعنى الافاقة والاستيقاظ. الصنع بمعنى اعادة انشائها من جديد وعلى اسس جديدة. كل ذلك يأخذ بالاعتبار ان التراث مصطنع في جزء كبير منه، وان التقاليد تشملها الحداثة اكثر مما يشملها التاريخ، وان التاريخ ذاته يجب ان يخضع للسؤال والشك. العقل الذي يشك هو وحده العاقل. العقل الذي لا يشك هو عقل مستسلم. العقل الذي يشكك هو الذي يصنع الارادة. المجتمع الواثق من نفسه هو الذي يسأل ويشك.
المجتمع الواثق من نفسه هو الذي ينتج، هو الذي يسأل ويشك لانه يريد ان يصنع وان ينتج. انتاج الاشياء اليومية الخسيسة، من صناعة وزراعة وخدمات الخ.. والتفكير في الامور الكونية، اي التنظير والتفلسف، يسيران يداً بيد. التطرف الديني انغلاق على الذات. لا ينغلق على ذاته الا من فقد الثقة بنفسه. يدافع عن نفسه بالتقوقع. هكذا علمتنا الحيوانات الصدفية. تطبق على ذاتها عندما يداهمها الخطر.
مصيبتنا مع النفط العربي هي انه حوّل مجتمعاتنا الى استهلاك محض. نستورد المصنوعات والمزروعات والتقنيات، مع دين منغلق على نفسه يمنع نشوء الافكار وتطورها. الاستبداد سبب ونتيجة. وجه آخر لدين منغلق على نفسه ومجتمع مستسلم لليقين.
في الدولة يحقق المجتمع نفسه، يكون ذلك بالعمل والسعي والانتاج، ولا يكون بمجرد الوعظ والارشاد. لا معنى لتعبير الدولة العادلة او الدولة القوية إلاّ في مجتمع قادر على القوة والعدل. القدرة تأتي من العمل والانتاج. المجتمع الطائفي يسلب الدولة هاتين الامكانيتين. لذلك فإن نزع الطائفية شرط من شروط تحقيق المجتمع ونشوء الدولة، فتتساوى السياسة مع الدولة ومع المجتمع المتماسك. وذلك بعكس الطائفية التي تضعف المجتمع وتكاد تلغيه وتجعل من الدولة كاريكاتيراً. بالعمل والانتاج يكسب الجميع. في الطائفية ما تكسبه طائفة يكون خسارة للاخرى ويكون المجموع صفراً.
هذا المجتمع العربي اذا حقق نفسه يكون قد حقق عروبته. يؤكد ذاته، يصنع مصيره، يقبض على مستقبله، يصير غير قابل للهزيمة. يهزم كل اعدائه، صغاراً كانوا ام كباراً ، كياناً صهيونياً او دولة عظمى امبريالية. ليس في ضعف لبنان قوته، بل في قوة مجتمعه، وشرط القوة هو العمل والسعي والانتاج كي تحقق الدولة نفسها. عروبة كل قطر عربي تحقيق لمجتمعه وصنع للمصير وقبض على المستقبل. بالدولة تحقق العروبة نفسها.
في كل دولة، في اي قطر عربي، تحقق العروبة بذاتها الوحدة المتحققة سلفاً. نعرفها منذ ثورة 2011. الثورة المضادة هي فعل الطبقات الحاكمة من اجل عدم قيام الدولة، ودولة الوحدة هي حتمية التاريخ، وستكون هي وحدة الدول، لان وحدة الشعوب امر حاصل.
تنشر بالتزامن مع موقع روسيا الآن