طلال سلمان

عراق »مجلس حكم« احتلال او على احتلال

دار الفلك بالعراق وأهله دورات عنيفة ما بين 14 تموز 1958 و13 تموز 2003، زلزلت كيانه السياسي ودمرت أو هي كادت تدمر وحدة شعبه الذي نصفه شهداء ونصفه شعراء ومجموعه يتمزق بين الرقة حتى الموت بكاء والقسوة حتى إدمان التفجع على الخطيئة الأصلية!
قبل خمس وأربعين سنة تماماً، أسقط الجيش، بانقلاب اعتبر سابقة بدمويته، الحكم الملكي الذي كان متهماً في وطنيته، وها هو الحاكم باسم الاحتلال الأميركي يقيم اليوم »مجلس حكم انتقالي« يضم مجاميع من ضحايا العهود المتعاقبة التي أخذتها المغامرات العسكرية والنزعة إلى التفرد بالسلطة إلى كوارث متلاحقة، وذهبت بثروات »أرض السواد« الهائلة فأفقرت شعبها وجعلته يخضع مرة أخرى لاحتلال جديد، وهذه المرة من أسف بلا مقاومة.
ذهب »العيد« الذي جاء مع »سحل« الملكية ورموز التبعية للأجنبي وإعلان »جمهورية الحرية والتقدم والعدالة« التي سرعان ما أكلها »أبناؤها«، شرعيين وغير شرعيين، مما أخلى المساحة أمام الاحتلال الجديد ليقيم »مجلس الحكم الانتقالي« من ضحايا العهود جميعاً، لا سيما الأخير منها والفريد من نوعه والذي أفرغ أرض الرافدين من أهل الفكر والرأي وأصحاب التاريخ النضالي الطويل، كما أفرغها من المستعدين للدفاع عنها وحمايتها وبناء نهضتها، فإذا بها تسقط بغير قتال، وإذا هي لا تقدر على رفض »الأميركي« الذي جاءها بلبوس »المحرر«، بينما اكتفى البريطاني بمكانه في مؤخرة الصورة، … أما الأمم المتحدة فتحاول تجاوز دورها كشاهد صامت إلى »مستشار« يفترض أن دوره سيصبح أكثر جدية كلما واجه الاحتلال المزيد من المصاعب في سعيه لتوطيد سيطرته.
في ظروف عادية كان يمكن اعتبار العديد من أعضاء »مجلس الحكم الانتقالي« »ممثلين شرعيين« للعراقيين بمجموعهم ومن دون التوغل في انتماءاتهم العرقية أو الطائفية أو المذهبية. حتى مع التدقيق في هوياتهم السياسية فثمة من يجيء من تجربة حزبية طويلة، سواء في قلب الحركة الوطنية التقليدية الديموقراطية على النموذج البريطاني، أو في الحركات الدينية التي صارت أحزاباً وبعضها امتشق السلاح لنشر دعوته، أو في الحركات اليسارية، الشيوعية تحديداً، والتي وصلت في بعض حالاتها إلى القول بالكفاح المسلح…
لكن الظروف غير عادية بالمطلق، والمتحدر من ديموقراطية العهد الملكي ليس كمثل المتحدر من بعثية عتيقة جبّتها طبعات جديدة من »البعثية« آخرها لا تعترف بأن صدام حسين له من قبله أو له من بعده، فضلاً عن أن لا شبيه له ولا مثيل، متجاوزة بذلك أحد الشعارات التي أودت ببطل ثورة 14 تموز 1958 »ماكو زعيم إلا كريم«!
كذلك فإن المتحدرين من صلب »الإسلام السياسي« كثرة، وهم يختلفون في ما بينهم أكثر من اختلافهم مجتمعين مع »العلمانيين«.
ثم إن كثيراً من أعضاء هذا »المجلس« يعودون من البعيد البعيد: البعض من البنتاغون، والبعض من لندن ذات الأثر الذي يصعب محوه عن وجه العراق السياسي، والبعض من إيران الدولة التي أنجبتها الثورة الإسلامية لكن لها الآن أجهزتها ومصالحها، والبعض الأخير من أحضان العشائر التي أعاد صدام حسين إلى بعضها من الاعتبار ما جعلها عشائر حاكمة، وأغدق على بعض آخر منها ما جعلها عشائر غانمة، والتي جاء الاحتلال الآن ليعتمد على آخر »إنجازات« صدام حسين في هذا المجال.
* * *
من حول طاولة »الحكم بالوكالة« عن الحاكم بالاحتلال: أِّعيد العراق إلى مكوّناته الأولية: أدياناً وأعراقاً وطوائف ومذاهب وعشائر. أُجلس العراق مشطّراً.. كل شطر إلى جانب الشطر الآخر. لم تكوّن الأشطار وحدة. لم تكوّن العراق… ولكنها قدمت صورة تشبه العراق. كان الكل عراقيين (وعراقيات). لكنهم لم يكونوا وحدة، هم لم يكونوا كلهم من الماضي، لكن من الصعب تخيّلهم صورة للمستقبل.
كان شبح المحتل الأميركي، ولو بلباس مدني، بين كل عراقي والآخر. وكان ظله يفيض عن القاعة التي اجتمعوا فيها، ويمتد إلى الجامعة العربية التي لم يعرف أمينها العام (المعاقب على تزايد اجتهاداته) هل يعلن قبول هذا المجلس الجديد ممثلاً للعراق فيرفضه أصحاب الشأن، أم يرفضه فيتلقى »تأنيب« الدول التي كانت تتعجل ولادته لترتاح من »غضب« شعوبها عليها لتسليمها بالاحتلال »كضرورة« بل وترحيبها به باعتباره طوق النجاة الأخير لشعب العراق من طاغيته الدموي؟!
أبأس ما في هذا الوضع أن الدول العربية، بعمومها، لا تستطيع رفضه، لأنها لا تملك أن تحدد بديلاً منه، ثم إنها لا تستطيع التسليم بشرعيته المستمدة من »الاحتلال« الذي وإن كان قد حظي بختم الشرعية الدولية ممثلة بمجلس الأمن، إلا أنه كان بمثابة »العرض الذي لا يمكن رفضه«.. مع إدراك صعوبة قبوله!
* * *
في ظروف عادية كان يمكن أن يكون الكثير ممن اختارهم الاحتلال أعضاء في »مجلس الحكم الانتقالي« وزراء طبيعيين، بل وربما كان بإمكان بعضهم أن يتطلع إلى أعلى من الوزارة.
لكن الظروف غير طبيعية، وكذلك مهمة هؤلاء الذين حشدوا في هذا المجلس، والذين قد يتحولون إلى مجرد »واجهة« تموّه الاحتلال وتبرّره وتشرعن وجوده، بل وقد تمد في عمر المرحلة الانتقالية، أو قد تدمغ وطنية العديد منهم ووعيهم خطورة المهمة التي انتدبوا لانجازها، والتي يحتاج الاحتلال الى تبنيها حتى لا يستفز وطنية العراقيين بعد ان يفيقوا من ليل صدام حسين الطويل فتكون عندها المقاومة الوطنية فعلا، والتي يملك شعب العراق فيها سجلا حافلا يعرفه »البريطانيون« كل المعرفة.
ان »مجلس الحكم الانتقالي« امام امتحان جدي ليس لكفاءته فحسب بل لوطنيته اساساً، فإن هو نجح في ممارسة سلطات تنفيذيه حقيقية، سواء بتعيين الوزراء او البعثات الدبلوماسية الجديدة، او بتقرير الموازنة الخ فلسوف يغض العراقيون نظرهم عن »التعاون مع الاحتلال« مفترضين ان نجاحه انما يقصّر في عمر فترة الاحتلال.
لن يمنح احد هذا المجلس ثقة غير مشروطة، ولن يرحب به الا من رحب بالاحتلال معتبراً ان اي بديل سيكون اقل سوءاً من حكم صدام حسين.
ان هذا المجلس لن يكتسب شرعيته الا بنجاحه في تقصير امد الاحتلال، وفي فرض رقابة عراقية على طريقة تصرف الاحتلال بثروات العراق الوطنية، وفي توفير الامن والغذاء وسائر الخدمات الاساسية للشعب العراقي.
المهم ان يصدّق اعضاؤه انهم في موقع »مجلسالحكم« وأنهم اصحاب الرأي الاول في القرار بكيف يساس شعبهم، وإن هم لم يصدقوا ان لهم الصفة التمثيلية التي تجعل الاحتلال بحاجة الى تغطيتهم وإنهم ان سحبوها كشفوه فسرّعوا في اخراجه، فإنهم بذلك يتحولون الى مجرد واجهة لتمويه الاحتلال وتزيين »منجزاته« بالمقارنة الدائمة مع ما كان عليه الوضع في الظل الاسود لصدام حسين.
***
تبقى بعض المفارقات التي لا بد من تسجيلها:
الاولى ان هذا المجلس قد التأم عقده في مقر وزارة التصنيع الحربي، قرب القصر الجمهوري… وهذا المقر هو، بحسب الاميركيين، المركز الاستراتيجي لانتاج اسلحة الدمار الشامل، وهي الذريعة التي استخدمت لتبرير الحرب على العراق، ثم لتشريع احتلاله… وهي هي كرة النار التي يتقاذفها الآن الاميركيون والبريطانيون بعدما ثبت ان المخابرات المركزية الاميركية قد »مررت« كذبة طوني بلير على جورج بوش، بالتعاون مع عصابة البنتاغون وسائر »المحافظين الجدد« من »المسيحيين الصهاينة« في الادارة الاميركية.
الثانية ان اسرع المرحبين بهذا الانجار الاميركي كانت الخارجية الفرنسية التي تبدى وزيرها الشاعر في مجلس الامن وكأنه محامي الشعوب المقهورة والمدافع الفذ عن الشرعية الدولية.
ثالثة هذه المفارقات ان بعض اعضاء هذا المجلس قد »احرقوا« اطلالته الاولى عندما اصر »الناطق باسم الاحتلال« والعائد بدباباته على شكر بوش والكونغرس والشعب الاميركي وبريمر، وعلى توصيف قوات الاحتلال بأنها »قوات تحرير«.
رابعة هذه المفارقات ان ممثل الامم المتحدة الذي شهد ولادة المجلس حاول ان ينسب هذه المؤسسة الوليدة الى القرار 1483، ولكنه تحفظ اذ اعتبر ان العراق »يجد نفسه اليوم في موقع فريد من نوعه وصعب وأمام مآس عديدة ومن دون ان يتمتع حالياً بكامل سيادته«.
خامسة هذه المفارقات وأبشعها ان يبدأ هذا المجلس »عهده« الميمون باعتبار يوم التاسع من نيسان، اي يوم احتلال بغداد وإعلان سقوط صدام حسين ونهاية عهده، »عيداً وطنياً« كأنه لم يكن للعراق قبله عيد وطني، وكأن تاريخ العراق الحديث انما يبدأ مع الاحتلال… الاميركي.
هل ان عراقاً جديداً يولد فعلاً؟
من الصعب ان ننسب هذا المجلس الى الوطنية العراقية بالمطلق، ولكن من الضروري التعامل معه كبعض نتائج الاحتلال، وعليه ان يستخرج بعمله شهادة بوطنيته… فهو، وبغض النظر عن التفاصيل والتحفظات، من نُسب اليه شرف تمثيل شعب العراق المحتل، ومعيار وطنيته كم يعجّل في انهاء هذا الاحتلال، وإلا كان صاحب فضل في التعجيل في ولادة المقاومة الشعبية الحتمية للاحتلال ولواجهاته المحلية.

Exit mobile version