طلال سلمان

عراق لا لبنان هو نموذج فيدرالية اقليات ديموقراطية

لا تُظهر الطبقة السياسية في لبنان كبير اهتمام بالزلزال المالي الذي ضرب الاقتصاد العالمي، انطلاقاً من »مركز القيادة والتوجيه« الأميركي، والذي ستعاني منه دول العالم جميعاً معاناة قاسية سوف تنعكس على مستقبل شعوبها جميعاً، لا سيما الفقيرة منها.
بل إن هذه الطبقة السياسية لا تهتم بالمعركة الرئاسية الأميركية ونتائجها التي قد تشكّل مشروع انقلاب في السياسات الدولية، إلا من زاوية حساباتها المحلية، وتأثيراتها المباشرة على سياق »الانتخابات النيابية« الصيف المقبل وتحالفاتها المحتملة أو المفترضة أو المؤكدة.
لقد اطمأن الأعظم ثراء من أهل هذه الطبقة على أرصدتهم، وتحمّلوا بصمت ما أصابهم ـ بعضهم أو كلهم ـ من خسائر نتيجة مضارباتهم وتوظيفاتهم الخارجية، وعادوا يتابعون هذرهم السياسي ولعبة المناكفات واستثمار الحساسيات، لا فرق بين الطائفي والمذهبي، الوطني الشامل أو الجهوي.
إن العالم يتغيّر في غياب مطلق للعرب، إلا في خانة خسائر أصحاب التوظيفات (بالرغبة أو بالإكراه) في المصارف والسندات الأميركية.. كما هو واقع الحال مع الدول النفطية العربية…
بل إن المنطقة العربية ذاتها تتغيّر في غياب مطلق للعرب:
لا لبنان الذي نعرفه هو لبنان الذي تتحدث عنه عواصم العالم الآن.
ولا فلسطين التي كنا نعرفها والتي كانت ملء العين والقلب والعقل والأذن، هي فلسطين التي يمزقها الصراع على السلطة بين من كانوا الوعد بالتحرير و»الدولة المستقلة«.
لا العراق الذي درسناه وعرفناه والذي كان »القوة المدخرة للشدائد« هو العراق الملغى الآن بالاحتلال الأميركي، الممزقة وحدة شعبه ـ وأرضه ـ بحسب الولاء للمحتل أو الاعتراض على استمراره.
لا مصر هي مصر التي في خاطرنا.
لا الجزائر هي جزائر الجهاد، ولا ليبيا هي ليبيا الثورة إلخ..
أما في لبنان فهناك نوع من »التغيير« يستكمل هيئته في تسريع الرجوع إلى الماضي… وإذا كان القانون الجديد للانتخاب قد توقف عند »قانون الستين« فإن »التحولات« أو »الممارسات« على الأرض يمكن أن تقود إلى /1860/ معكوسة هذه المرة… إذ إن »سلطنة« هذا العصر مهتمة بالأكثريات أكثر منها بالأقليات.
ليس رجماً بالغيب أن يقال إن كل قطر عربي مرشح لأن يكون »لبنان الثاني«: أي لا شعب واحد بل مجموعة من »الأقليات« تتفاوت أحجامها، لكن أياً منها ليست أكثرية مطلقة ولا يمكن أن تكون.
… وحيث يصعب التعويل على الطوائف والمذاهب والأعراق والعناصر، يمكن اللعب على »الوافدين« كعمال أو موظفين أجانب، كما يتم التمهيد في بعض أقطار الخليج لطرح مسألة الأكثرية والأقلية بمفهوم مختلف تماماً: إذ يصبح أهل البلاد هم الأقلية، ويصبح »الوافدون« هم الأكثرية المغبونة والمضيّعة حقوقها، والتي لا بد من إسباغ شرعية ما على وجودها مما يمكنها من »المشاركة« في تقرير مصائر البلاد التي يعيشون من خيرها وتنمو بعرق جباههم والزنود.
… وها هي محنة العراق تحت الاحتلال تفرض دروسها القاسية على العرب أجمعين: إن كل قطر عربي قابل للقسمة إلى اثنين أو ثلاثة أو أربعة تسمى »دولاً«! مرة بحسب التنوع الديني، ومرة بحسب التعدد المذهبي، ومرة بحسب الاختلاف العرقي.
… وكل ذلك يتم ديموقراطياً… وبالاقتراع الشعبي المباشر، حتى »الاتفاقات الأمنية« التي تهدف إلى إدامة الاحتلال (الأميركي) لأطول مدى ممكن، في ظل التهويل بالبديل (القابل للتصنيع فوراً): الحرب الأهلية المفتوحة، التي ستفضي إلى تقسيم الوطن الواحد إلى دويلات تفصل بينها خنادق من الدم والبغضاء التي تفضي إلى »استئصال« طوائف ومذاهب بكاملها حيث تكون »أقليات« وسط أكثريات طائفية أو مذهبية… أو عنصرية مصفحة باختلاف الانتماء الديني (كما حصل ويحصل حاليا للصابئة والكلدان الأشوريين في الموصل ومنطقتها، ولليزيديين إلخ)… على يد »أقلية« استقلت بمنطقة لها واعتبرت نفسها »أكثرية« وأخذت تمدد »دولتها« الكردية ملغية الآخرين، بالمذابح والاعتداءات اليومية التي سوف تدفعهم إلى مغادرة أرضهم وتاريخهم وهويتهم ليذهبوا إلى أي قوي يوفر لهم الأمن والعيش.. ولو في آخر الأرض!
[ [ [
إن الانتخابات النيابية في لبنان مرشحة لأن تقدم خريطة جديدة لفيدراليات الطوائف والمذاهب، مرسومة بدماء الديموقراطية المباشرة (على الطريقة العراقية).
وفي فلسطين فإن الانقسام السياسي بين رفاق السلاح من فتح وحماس قد تردى خارج السياسة، حتى كاد يضيع مصير فلسطين جميعاً، التي لم تكن يوماً ولا يمكن أن تكون مجرد حاصل جمع بين غزة والضفة تحت الاحتلال الإسرائيلي.
القاعدة الجديدة المبتدعة: أن تكون الديموقراطية داخل كل طائفة. فيكون لكل فيدرالية ديموقراطيتها الخاصة.. التي يمكن أن يكون فيها »أصوليون، وأنصاف أصوليين«. ليكن فيها ماجنون وخوارج، يمارسون »حريتهم« داخلها فلا يتعرض لهم أحد، بشرط أن يظلوا داخل حظيرة الطائفة، وأن تبقى العلاقة مع الطوائف الأخرى محكومة بضوابط استقلال كل طرف بشؤونه… فثمة ديموقراطيات بعدد الطوائف والمذاهب، وكل منها له »تفصيله« الخاص: أليست القاعدة في لبنان »احترام الخصوصية«؟!
لم يعد لبنان »النموذج«.
صار العراق (تحت الاحتلال الأميركي) هو النموذج..
وقد سقطت فلسطين سهواً.
ملاحظة: كل هذه المحاولات للتفتيت الممهدة لقيام فيدراليات الطوائف لا تتعارض مطلقاً مع شعارات الحرية والسيادة والاستقلال ولبنان أولاً… خصوصاً أنه سيمكن إثبات أن ثمة »لبنان أولاً« هو بين هذه اللبنانات التي ستستولد على أيدي القابلات القانونيات للطوائف والمذاهب، والتي تمثل »كونسلتو« المصالح الأجنبية في لبنان.
… ومثل هذه المصالح لن يؤثر فيها كثيراً الزلزال المالي الذي ضرب »القيادة المركزية« للكون ممثلة بالإدارة التي لم تشأ أن تغادر البيت الأبيض إلا بعد تقديم إنجازها الأعظم ممثلاً بالأزمة الاقتصادية التي ضربت »الاستقرار« في العالم أجمع، وفتحت الباب لانقلابات يصعب تقدير مداها وخطورتها على صورة الغد… إلا في بلادنا حيث يتهددنا بؤس عظيم، خصوصاً في ظل هذه الطبقة السياسية الممتازة بحيث أن لا شبيه لها ولا مثيل في الكون!

Exit mobile version