طلال سلمان

عراق شهيدا

قدمت المذبحة المنظمة التي ارتُكبت في النجف، أمس، صورة العراق شهيداً..
فالذين خططوا لهذه المذبحة الفظيعة بدم بارد قد »تفوّقوا« في دقة اختيار »الهدف«، وفي التوقيت، كما في المكان بحيث أصابوا فهشّموا كل المقدسات معاً:
اختاروا مقام الإمام علي بن أبي طالب في النجف الأشرف مسرحاً للجريمة، وصلاة الجمعة موعداً للقتل الجماعي، والسيد محمد باقر الحكيم هدفاً، وهو القائد السياسي البارز وسليل الأسرة المشرفة بنسبها كما بموقعها المرجعي وذات الإسهام العلمي والفقهي المتميّز، فضلاً عن سيرتها النضالية المعروفة والتي تشكّل مقاومة الاضطهاد حتى الشهادة بعضاً من إرثها الغني.
وعبر هذا كله توفر للإدارة الأميركية أن تحقق في العراق المُخضع لاحتلالها، إنجازاً تاريخياً في وقت قياسي: إذ تفوّقت في بضعة شهور فقط على ما احتاج صدام حسين إلى سنوات من حكمه الدكتاتوري المتوحش لإنجازه، وهو إغراق العراق في بحر من دماء بنيه، وإثارة النعرات الطائفية والمذهبية والعرقية بما ينذر بمخاطر حرب أهلية لن تتوقف نيرانها، إذا ما تفجرت، لا سمح الله، عند حدود »أرض السواد« بل هي قد تمتد لتشمل العديد من الأقطار العربية… إذا ما استذكرنا كفاءة حليفها الإسرائيلي بقيادة أرييل شارون في »إدارة« احتلاله فلسطين!
ومع الثقة بوعي الشعب في العراق، كما في فلسطين، فإن الظروف التي يخلقها أو يتسبّب بها الاحتلال هنا وهناك، تجعل من الاحتمال خطراً جدياً وداهماً… فأكثر ما يريح الاحتلال أن ينشغل الشعب المقهور بنفسه وأثقال همومه اليومية عن المحتل، وأن ينقسم على ذاته مقدماً ما هو تفصيلي على ما هو جوهري، مستذكراً مكوّناته الأولى في ماضيه السحيق (الأعراق والأديان والطوائف والمذاهب) بعدما سدّ احتلال الحاضر أبواب المستقبل أمامه.
ها هو الاحتلال الأميركي يستكمل ملامح الطاغية، الذي برّر به حربه على شعب عريق، وتدمير مقومات دولة كانت برغم ما أصابها على يد الدكتاتور تشكل الإطار الجامع لشعبها الذي كان لا بد سيتحرر من جلاده، ذات يوم، فيستعيد حقه بالحياة اللائقة به فوق أرضه.
بل لقد تفوّق الاحتلال الأميركي على صدام حسين في إلحاقه الأذى بالعراق والعراقيين، وفي وقت قياسي: شطب كيانه السياسي، دولياً، وصادر ثروته الوطنية، وكرّس »التقسيم« الذي كان قد رعاه على الأرض، في الشمال، وبالطيران في الجنوب، ثم انه أفقد العراقيين ما كان تبقى لديهم من شعور بالأمان، ولو نسبياً.
* * *
لقد صنّف الاحتلال الأميركي خمسة وخمسين عراقيا من بطانة صدام حسين (بينهم سيدة واحدة) كمسؤولين مطلوبين للمحاكمة، وابتدع طريقة للتشهير بهم إذ جعلهم على »ورق اللعب«، ثم حل الجيش والحرس والأجهزة الأمنية كافة، وصولا إلى شرطة المرور، فجعل العراق ساحة مفتوحة للقتل والنهب المنظم (وغير المنظم) والحرائق المتعمدة، فلم تسلم كنوز التاريخ في المتحف الوطني، ولا التراث الفكري والأدبي الأغنى، في دار الكتب الوطنية، من أيدي الناهبين ونيران مدمري الحضارة..
خمسة وخمسون؟!
وكان بديهياً بعد ذلك أن ينسب أي عمل مقاوم، أي احتجاج، أي اعتراض، أي رفض لقرار خاطئ، إلى »التدخل الأجنبي« في الشؤون العراقية، وكأنما بول بريمر هو سليل نبوخذ نصّر أو اسرحدون أو أبو جعفر المنصور أو المأمون بن هارون الرشيد… وهكذا توالت الاتهامات والضغوط على سوريا وإيران ثم معهما المملكة العربية السعودية، فضلا عن الغائب الحاضر دائما أسامة بن لادن وتنظيم »القاعدة« وعن شركائه وحلفائه مثل تنظيم »أنصار الإسلام« أو غيره من الجهات »البريئة« من شبهة الانتساب إلى الغد العراقي المرتجى.
في هذا الوقت، وفي ظل المئة وسبعين ألف جندي أجنبي، أكثريتهم الساحقة كما قيادتهم أميركية، كان الشعب العراقي يعيش حالة من الذعر وافتقاد الأمان (بين أسبابها شبح صدام حسين واحتمال »أن يعود!!«..) وانعدام الخدمات والغرق في دوامة الفقر والبطالة والجريمة (وأسواق السلاح مفتوحة على مدار الساعة)..
ثم أكمل الاحتلال الأميركي أفضاله ففتح حدود البلاد أمام
إسرائيل، شركاتها ومخابراتها والذين تخلوا عن وطنهم العراقي ليذهبوا إلى جيش القتل فيها قبل نصف قرن أو يزيد وأعيدوا الآن ليطالبوا بأملاكهم التي لا بد باعوها قبل التحاقهم بالمشروع الصهيوني… إضافة إلى أن الحدود السائبة سمحت لكل أصناف المغامرين والقتلة والهاربين من أوطانهم والمهربين، بالتوغل في الجرح العراقي والإفادة من احتياج أهله إلى كل شيء، من أسباب المعيشة إلى أسباب الاتصال، كالهاتف، و»الدش« المستولد للفضائيات ومحطات المتعة المجانية!
***
متى سقط الوطن تحت الاحتلال سقط كل مقدس: هل في الوطن ما هو أقدس من الوطن؟!
لقد أسقط الاحتلال الأميركي الوطن العراقي، بكل ما يختزنه من معاني العزة والسيادة والكرامة والحق بالقرار، وهذه قيم تخص الشعب كله… فمن الطبيعي والحالة هذه أن تتهاوى كرامة المقدس، سواء أكان مقاما مطهرا، يحفظ رفات الأولياء الصالحين، أو مرجعية دينية أو قيمة فكرية أو ثقافية إلخ.
ومن الطبيعي ان تسقط الحصانات جميعاً، تستوي في ذلك حصانة المقر المؤقت لبعثة الامم المتحدة لمساعدة العراق في محنته، والشهيد الكبير ممثل الامين العام سيرجيو دي ميلو، وحصانة السفارات (لا سميا العربية منها) أو حصانة العتبات المقدسة.
بالاستطراد يمكن ان يقال ان العراق تحت حكم صدام حسين قد عرف إرهاب الطاغية، لكنه الآن يعيش حالة نموذجية للساحة المفتوحة للارهاب، بحراسة قوات الاحتلال الاميركي التي كان المبرر المعلن لقدومها »تحريره« من حاكمه المتحالف مع زعيم الارهاب الدولي أسامة بن لادن!
***
إسقاط المقدس: هل أقدس من الوطن؟!
ومن أسقط الوطن العراقي لن يحمي قداسة مقام الامام علي في النجف، أو سائر العتبات المقدسة والمقامات في مختلف أنحاء العراق.
تماماً كما ان الاحتلال الاسرائيلي في فلسطين لن يحترم ولن يحمي قداسة المسجد الاقصى في القدس.
لكن المقدس الذي يتهدده الخطر الجدي الآن هو الوطن العراقي، بوحدة شعبه ووحدة أرضه، ووحدة كيانه السياسي ووحدة هويته العربية
وقبل العراق ومعه فلسطين.
وبعد العراق وفلسطين أو معهما أقطار عربية اخرى، قد يرى هذا الاحتلال أو ذاك في إشغالها بالحرب الاهلية داخلها ضمانة لاحتلال هادئ لأرض الرافدين أو لأرض الانبياء.
الى من يمكن ان يتوجه العراقيون الآن بنداء الاستغاثة وطلب النجدة؟
تلك هي ذروة المأساة العربية التي تنذر بأن لا يكون العراق الشهيد هو الوحيد في هذه الحقبة الاميركية الاسرائيلية التي تتغذى بالانصياع الرسمي العربي، وبالمال العربي، كما بالدماء العربية.
مصدر الامل الاهم: وعي الشعب العراقي…
أعان الله الشعوب الشهيدة ما بين غزة بني هاشم وشط العرب على الخليج الذي صار قاعدة بحرية لجيش الاحتلال الاميركي للادارة العربية.

Exit mobile version