طلال سلمان

عجوز في الأربعين

جاء مكانها على يميني في الطائرة. لم تلفت انتباهي معظم الوقت الذي قضيناه معا في رحلتنا. العذر عذري فقد انشغلت بحديث طويل ومتشعب مع الجارة التي احتلت موقع اليسار مني. انشغال توقف عندما انتهت من إملاء مقال في موضوع شعرت أنني مهتم بفكرته. ما أن انتهت من الإملاء حتى غفت في نوم بدا لي عميقا. عدت بعدها أعتدل في جلستي واضع السماعة استعدادا لفاصل أقضيه مع الموسيقي، وبنظرة خاطفة قبل تشغيل الصوت أدركت أن جارة اليمين ما زالت تتابع مسار الطائرة على شاشة الكومبيوتر. لم تقرأ طوال الرحلة، هكذا لاحظت. ولم أسمعها تنطق لأحد بكلمة. بل لم تخضع للفضول. لم تبد أي اهتمام بجارين انشغلا ببعضهما لساعات وأهملاها. الآن فقط التقطت نظرتي الخاطفة وحولتها إلى فرصة للتعارف.

***

قالت أرجوك لا تغضب من تصرفي بل وأتمنى لو تتدخل لدى جارتك لتقبل اعتذاري. لم أهتم بمن حولي فقد نشأت في بيئة لا تشجع الناس، حتى الأطفال بينهم، على ممارسة التنصت على المتهامسين. لم أتعمد التنصت عليكما ولكن صوتكما كان أحيانا أعلى من طبقة الهمس الخافت. سمعتك تطلب منها مقالا ثم بعد همس متبادل سمعتك تعرب لها عن استعدادك تسجيل ما تمليه عليك. سكتت برهة قبل أن تستدير وتسأل السؤال الذي انتظرت..

“سيدي، هل بقي في مشروعك مكان لرواية من امرأة أخرى بلغت فعلا الأربعين من عمرها ولديها الكثير الكثير لتقول في هذا الموضوع. لديها حكايات عما فعله بها زمن، هو في حساب عذاباتها، أطول من أربعين عاما”.

***

أتصور أن إشارات غير قليلة بدرت من ناحيتي شجعتها. كنت أمام وجه تجاعيده فشلت في إخفاء جماله. أظن أنني حملقت للحظة وبأدب في هذا الوجه معجبا بسمرة طبيعية أخاذة ومنبهرا بعينين نفاذتي النظرة ومشدودا إلى شفتين حاسمتي القرار يصعب أن تفلت من تأثيرهما إرادة حتى لو قوية أو عزيمة حتى لو صلبة وعاطفة حتى لو باردة. تكلمت فخرجت الكلمات متآلفة ومرتبة وحروفها منتقاة بكل عناية. تقول ما تقول بثقة متناهية وتصل إليك واضحة لا تحتمل التشكيك أو التردد في فهمها. قلت لنفسي هكذا امرأة لا يمكن أن يتحمل العيش معها تحت سقف واحد رجل عادي. الرجل العادي لن يعرف أن لمثل هذه المرأة وقت للمداعبة ووقت للعمل لا يتشابكان أو يمتزجان. لن يعرف كيف يتعامل بمنظومة أخلاقه العادية مع منظومة قيم غير عادية. تستطيع أيها الغريب عنها أن تدرك بعد قليل من اختلاطك بها مستمعا كنت أم منبهرا بالوجه أم محاورا أنك أمام أصل الأشياء. هكذا كانت المرأة في أحلى العصور، هكذا كانت الأخلاق في أزمنة الفضيلة التي تمناها ورسم معالمها الفلاسفة في كل الثقافات، هكذا يعيش الفرادي وسط زحمة البشر وفي عصور الانحدار. لابد أن تبحث عنهم كما تبحث عن إبرة في كوم قش. لن تجدهم لأول وهلة ولكنهم هناك. سألتها من أي بلد خرجت وإلى أي ثقافة أو حضارة تنتمي. سألتها عن عائلتيها: الصغيرة والممتدة. من أين جاءت وأين قضت السنوات الأربعين وإلى أين هي ذاهبة؟

***

قالت: لن أجيبك حسب ترتيب أسئلتك. أولا أنا لا أعرفك. ثانيا علمتني الأيام ألا أثق بمعارف الرحلات الجوية. ثالثا لن أطيل فالحكايات أغلبها سمعت عنها أو عشت مع شبيهاتها في بلدك. استطعت من لون بشرتكما أن أخمن من أي بلاد أنتما. واستطعت من لهجتيكما أن أتبين بالدقة الممكنة بلد كل منكما. أنا من بلاد يعلمونكم في بلادكم أن تجيدوا كراهيتها. لا أعتب عليكم ولا أعيب عليهم فنحن أيضا علمونا كيف نكرهكم. نتسابق في المدرسة لا في الدرس والتحصيل ولا في عبقرية اللعب على الآلات الموسيقية ولا في الركض والقفز، ولكن في تخليق الكره لكم ثم الإبداع في ممارسته. لستم وحدكم الذين نمارس فيكم البغض والكراهية فهناك من ينافسكم. كلكم تتآمرون علينا.

تمردت على هذه التنشئة في المرحلتين الثانوية والجامعية. رفضت أن أتسابق في الكره فخسرت الجوائز. كل الجوائز. فرضوا علينا رحلاتهم السياسية. كان يقال لأهالينا أن الرحلات والإقامة في المخيمات إنما هي لتدريب الشابات على حب الوطن. عدت من كل رحلة لأعلن لأهلي أنها رحلات لإفساد الأخلاق وتشويه سمعة الفتيات. كان الوطن الذي يدعوننا إلى حبه غير الوطن الذي أحببته في بيتي وفي صلواتي ومع أحبائي وأصدقائي. الوطن الذي أحببته كان بسيطا وكريما وصافيا وطاهرا وخاليا من أهل السوء وآكلي كرامة البشر. كنت أغني له، للوطن أقصد، قبل النوم، وفي النوم أحلم ببطولاتي وتضحياتي في الدفاع عنه. كان موجودا. لم أشعر يوما وأنا طفلة أو في سن المراهقة أو في شبابي أنني في حاجة لحزب أو فرد يصنع لي صنما يحمل اسم وطن ويطلب مني أن أحبه لا لشئ إلا لأن هذا الوطن الصنم من نحت أصابعه.

***

قضيت في السجن سنوات عديدة. أخرج لأدخل مع كل فوج جديد. رفضوا الوطن الذي صاغه جدودي وأساتذتي وشلة شبابي وأبي وأمي. أصروا على صيغة لوطن هم أصحابها. يروح السجانون، سجانو السجن وسجانو حقول الفكر والعمل، ويأتي غيرهم بصيغة لوطن غير صيغة أسلافهم ويطلبون مني أن أركع لها.. جربوا في جيلي كل صيغ الوطن الممكنة. كم وطن انكسر وآخر انتكس وثالث رحل مغدورا به ليحل محله وطن مستأسد أو فارد جناحيه ولكن بلا عقل ولا قلب. أما أنا، المرأة المتمردة، فإلى السجن إذا حل وطن، وإلى السجن إذا رحل وطن.

***

سيدي، تسألني إلى أين؟ حقيقة لا أعرف. كل ما أعرفه هو أنني قررت الرحيل. أحمل معي وطني الذي ولد وشب في بيتي، الوطن الوحيد الذي أعرفه وأرتاح إليه وأطمئن إلى طهره وعدله، أحمله معي في حقائب سفري. تركت لهم وطنهم. أتعرف لماذا؟ لعلك لم تقرأ ولم تسمع ما وقع لي في بلدي التي يعلمونك في بلدك أن تكرهها. كنت أقف في مطلع ليلة بين رجال ونساء أكثرهم أعرف عنه نبل الأخلاق وصدق النوايا. فجأة ظهرت امرأة كاشفة عن صدرها ونافشة شعرها ومعها ستة أو سبعة “رجال” من حثالة البشر شكلا ومضمونا. صرخت في وجهي بوابل من الشتائم ثم اندفعت نحوي وأسنانها السوداء مشهرة وسكينها يلمع في يدها. تهجمت لتطردني. حضرتك تتصور طبعا أنها تطردني من المكان؟ لا يا سيدي، تهجمت لتطردني من بلدي. صرخت في وجهي صرخة لا تصدر إلا عن إنسان تحت المخدر. قالت أخرجي يا جاسوسة. أيتها الخائنة للوطن إرحلى عن بلدنا، اخرجي دي بلدنا إحنا وليست بلد العملاء من أمثالك وأمثال رفاقك. فجأة استدارت لتغادر المكان وقد عمت فيه آثار الفوضي والتخريب المتعمد وحريق هنا وحريق هناك ودماء تسيل على أكثر من وجه من وجوه الضيوف ممن هم على شاكلتي، خرجت وهي تهتف ومعها يهتف رجالها “تحيا بلدنا ويموت الخونة”.

***

يومها، أيقنت أن هناك في هذا البلد من لا يطيق وجودنا. البلد هي باليقين بلدهم كما أعلنت هذه المرأة وأشاوسها. يومها أدركت أن أربعين سنة من عمري قضيتها هباء. شاب شعري في حب وطن مختطف. رأيت بعيني للمرة الثانية في أقل من عشر سنوات، وليس بعيون أخرى، بلدا كانت في الأصل بلدي، يعيش فيها أناس يمسكون الهراوات ويحملون الخناجر والسكاكين ويتحرشون ويغتصبون ويعتقلون، وفي النهاية ينصبون منصة في مكان عام ليصدروا من فوقها أحكاما بإسقاط الوطنية والطرد إلى خارج البلاد.

***

أجبتك نصف إجابة. أعتذر عن إلمامي الضعيف بلغتكم العربية. الآن تعلم أنا من أين؟ ولكنك لا تعرف إلى أين؟ أنا نفسي لا أعرف. لا أحمل تأشيرة دخول إلى أي بلد. كلكم رفضتم استقبالي. كلكم قررتم أن أنضم، وقد تجاوزت الأربعين من عمري، إلى عشرات الملايين من المهاجرين من بلاد انتهكت الأوطان فيها أو سلبت أو أحرقت أو دنست…

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

 

 

Exit mobile version