طلال سلمان

عبد الله الفلسطيني

لم تكن المفاجأة في أن عبد الله حوراني قد غادرنا بغير وداع، بل في انه قد صمد وظل يرجئ رحيله حتى انطفاء آخر ارتعاشة في جذوة الأمل الذي استحال وهماً، فصار البقاء في موقع الشاهد على الغلط العاجز عن وقفه خيانة للتاريخ الشخصي وإهداراً لكرامة القضية: فلسطين!
التقينا للمرة الأولى قبل دهر، وفي الظلال الوارفة للثورة التي انبلجت من قلب اليأس. وكانت دمشق «فلسطينية» كما ينبغي ان تكون العواصم العربية جميعاً.. لكن العواطف والحماسة والإيمان بالقضية لا تكفي لكي يتحول الظل إلى طائرة مقاتلة والحلم إلى دبابة وبطارية صواريخ. وكانت الأنظمة التي انتبهت إلى خطورة فكرة الثورة قد باشرت مصادرتها بالمزايدة والقذائف المضادة للأحلام.
وحين سقطت علينا الهزيمة في الخامس من حزيران 1967 نهض جيل عبد الله حوراني ليتولى القضية مباشرة، بعدما تأكد لهم ان الثورة ليست «بالقائد» وحده، وإنما بالناس، كل الناس، وبالوضوح الفكري، وبالربط الطبيعي بين القضية والرغيف، بين التاريخ والجغرافيا، بين الفكر والممارسة، بين الثقافة والعمل، وبين المعرفة والحماسة.
حاول عبد الله حوراني مع نخب من جيله حماية الثورة من مغريات السلطة. قاتل ضد انزلاق القيادة نحو تمثل مواقع «السلاطين» واقتباس خطابهم السياسي معززاً ببعض الشعارات والجمل الثورية… لكن الموجة كانت أعلى من ان تقاوم، فجرفت العديد بالمواقع والمناصب والمخصصات السميكة… كما جرفت آخرين بتزيين الانحرافات البسيطة التي سرعان ما باتت خروجاً من الثورة ثم خروجاً عليها.
ذات لحظة كان على عبد الله حوراني والعديد من رفاقه ان يختاروا: الدخول إلى جنة الوطن المحتل بلا الثورة، أو المضي في الثورة التي غدت ـ بعد خروج مصر من أصل القضية، والانقلاب الأردني على أهلها ـ «لاجئة» لا تجد لها مأوى ولا سنداً ولا أرضاً تؤويها وتوفر لها قاعدة الانطلاق من جديد.
عاد كما الثورة حلماً، وصارت السلطة أسيرة، وابتعدت فلسطين عن الاهتمام، قبل ان تتشطر نتفاً، بعضها في المعتقل، وبعضها في المهجر، بعضها في الماضي الذي لن يعود، وبعضها الآخر في المستقبل الذي لا يجيء.
عاش عبد الله حوراني المأساة بصيغها الجديدة: إذا «دخل» فقد خرج من الوطن، وإذا «خرج» لم يجد مأوى في الثورة… وهو قد تعب من اللجوء، ومن الارتهان لإرادة النظام العربي. الاحتلال أمامه وخلفه، فوقه وتحته، عن يمينه وعن شماله حتى لو رطن بالعربية.. وفلسطين تبتعد عن مدى يديه وعينيه وإن توغلت عميقاً في وجدانه.
لم يعد للقضية مكان. لم يعد للوطن أرض. لم يعد للشعب شعب. صار الشعب شعوباً معظمها لاجئ في أرض يضيق به أهلها، وبعضها مرفوضة حتى كلاجئين، وبعضها الثالث شريدة في أربع جهات الدنيا تُقبل بقدر ما تتنصل من هويتها، وتتنكر لها.
أقفلت غزة على أهلها. أقيمت من حولها الأسوار حتى لا يدخلها أحد، وأقام من أخذت منه أسواراً إضافية حتى لا يدخلها رجل أو امرأة أو صفيحة نفط أو حبة دواء. واعتقلت الضفة بكل من فيها في سجن داخل سجن داخل سجن ومن حولها حراس وعسس وجيوش كثيرة ومخبرون، والمعابر أضيق من ان يدخلها من يرفع رأسه.
وهكذا تهاوى عبد الله حوراني عند باب فلسطين، لا هو داخلها مع انه هو هو داخلها، ولا هو خارجها، لأن فلسطين هي دنيانا هذه جميعاً.
لا عزاء في عبد الله حوراني. لا عزاء في فلسطين. العزاء في من يموت… وهذه الفلسطين هي هي سر الحياة.

Exit mobile version