طلال سلمان

عبد الرحمن الابنودي: الصعيدي الذي غنانا الوطنية

عاش عبد الرحمن الابنودي في قلب الثورة فجعلته شاعراً كبيراً، ثم جاءت هزيمة 1967 فزادته ايمانا بالشعب وقدراته، وان فجعته بالقيادة التي ضيعت، لأسباب عديدة بينها الشخصي، وهج الثورة وامكانية النصر الذي سيتأخر قبل أن يتحقق في الميدان العسكري بعدما ضيعت نتائجه مع التفريط السياسي بدماء الشهداء وعروبة مصر، وعزتها.

انه واحد ممن اغنوا وجداننا وعززوا فينا مشاعر الفخر بهويتنا، قبل أن تدهمه الهزيمة التي كسرته، ثم انتبه إلى أن انكساره سيزيد من اثقالها عليه.. فلما تفجرت انتفاضة الميدان (كانون الثاني ـ يناير 2011) استعاد ثقته بنفسه وعاد يستذكر شعره الذي غنته لثورة 1952 السيدة ام كلثوم وعبد الحليم حافظ ونجاة الصغيرة وغيرهم من كبار الفنانين، وعاد إلى كتابة شعره الشعبي بتفاؤل مبعثه الايمان الذي يتزعزع بالشعب وارادته التي لا بد ستنتصر.

هنا مجموعة من المحاورات والكتابات التي استبقت رحيل هذا الشعر الكبير الذي عبر عن وجدان الامة، ولو بالعامية المصرية التي تفوقت، بصوته اولاً، ثم بأصوات الكبار من المطربات والمطربين والجماهير التي انتعشت، مجدداً، بانتفاضة الميدان التي صودرت قبل أن تعطي ثمارها المرتجاة، وان كانت الجماهير تشوق للعودة اليها لإكمال مسيرة الثورة.

هنا بعض حكاية الشاعر الكبير عبد الرحمن الابنودي بأقلام من عرفه أفضل مني:

*****

زينب عبد الرازق

يمكن القول بلا خوف من المبالغة ان عبد الرحمن الابنودي هو صوت مصر وقلبها النابض بالأمل والحرية والوطنية‏، ‏ وهو طائر الرومانسية العذب المتوج على عرش شعر العامية‏، ‏ وهو النبع الصافي الذي روي حياة المصريين في الريف والحضر في الصعيد والبوادي وفي قلب الأدغال.يطوي الجبال المسكونة بالرهبة والجبروت. إنه عبد الرحمن الأبنودي.. ترنيمة حب وعشق ونزق وتمرد عبر كلمات تستطيع أن تصالحك.. تبكيك وتشقيك تجعلك تنتشي فرحا طفوليا، وتتنقل بين الزهور كفراش تواق للضوء.هو الباعث في نفسك الشجن وجذوة الشوق والحنين، والمانح لك قدرة فائقة علي تجرع الهزيمة والعبور بجسارة المقاتل المصري الصلب عاري الصدر وصولا إلى بوابات الحرية والنصر.كان يقول: نحن جيل عاش على فكرة الثورة، جيل الستينيات لم يحلم بشيء إلا بتغيير الأوضاع لهذه الأمة وبناء مستقبل لأبنائها وعاش شعراء وأدباء وقصاصون وروائيو هذا الجيل على فكرة تغيير هذا العالم، ومن النادر أن تلتقي واحدا منهم لم يدخل السجن ولم يعتقل، نحن جميعا دفعنا ثمن فكرة وهمية أو حلم في غيامات الرؤي اسمه الثورة المصرية، وأتعجب الآن حين أعود لأشعاري فأجدها مواكبة وبصورة مطابقة للواقع الحالي وربما ينبهني إلي ذلك شباب الثورة.. لقد عثر شباب الثورة على قصائدي ونشروها علي الفيس بوك واليوتيوب.. وكأنها كتبت اليوم للميدان ففي قصيدة الاحزان العادية أقول:

“وفجأة ـ هبط على الميدان ـ من كل جهات المدن الخرسة ـ ألوف شبان ـ زاحفين يسألوا عن موت الفجر / استنوا الفجر وراء الفجر / إن القتل يكف أن القبضة تخف / ولذلك خرجوا يطالبوا ـ بالقبض على القبضة ـ وتقديم الكف / الدم.. الدم”

وحين أتحدث عن الضابط وأقول:

“يهين المعني الضابط ـ ويدوس بالجزمة على الحلم / ربنا رازقه بجهل غانيه عن كل العلم..”

وهي كلها مشاهد عن شباب الثورة الذي استبيح في الميدان، والذي قدم للمحاكمات العسكرية، والذي ذهب إلي سجن الاستئناف..

قصيدتي التي عن علاء عبد الفتاح وأحمد حرارة، اقول في بدايتها:

“تغازل العصافير قضبانها / زنزانة لأجلك كارهة سجانها / دوق زينا حلاوة الزنازين..”

وفي رأيي أن أخطر ما يواجه الثورة هو تفتت القوي الثورية.. تلك العشرات أو المئات من الاختلافات المسماة بالائتلافات.. وهو مرض الحركة الثقافية منذ القدم.. لأننا في الحقيقة فراعنة ولا نجيد الذوبان في بعضنا البعض.. وحينما فعلنا ذلك في ميدان التحرير كنا قوة زلزلت العالم.. وللأسف المصري دائما يحاول أن يظهر مهاراته الفردية على حساب فكرة الجماعة.. ومن هنا لابد من جبهة توحد كل الفئات والأحزاب والأشخاص، وإذا اجتمعت الفرق والحركات في جبهة واحدة مع الاحتفاظ باستقلالية كل منهم.. سننتصر على الفشل، وإذا لم نحقق ذلك فسوف نظل في هزيمة دائمة.. أيضا للحركة الثورية أن تنظر إلى نفسها من جديد، وأنا دعوت منذ فترة لإقامة اتحاد ثقافي لمبدعي مصر جميعا ومفكريها وسياسيها لأن آن الآوان أن يتكون هرم ضخم في هؤلاء المبدعين الذين لا مثيل لهم في الأمة العربية في هذه اللحظة الفاصلة. .. لا بد لشباب الثوار الذين أخفوا أسفلت ميدان التحرير وما حوله.. لو كل منهم تحدث مع أسرته.. لو كل منهم عاد إلى أهله وبتواضع تحدث معهم عن الثورة وعن المستقبل، هنا يستطيع أن يقودوهم ببساطة.. ومن مجموع هذه التكوينات الصغيرة يتكون البدن الكبير.. قليل من التواضع ضروري للشباب، وأيضا لابد أن نعلم أن الثورة لن تسقط لنا مع الندي والمطر في الصباح، الثورة عمل يدوي إن لم نشقي فيه فلن نصل إلي جوهره ولن نحقق أي شيء.. لأن الثورة عمل وليس مجرد كلمات.. هذا يعني أننا مازلنا في بدايات الثورة، في رأيك فيما تحقق بين انجازات، وما هي أهم الأهداف التي لم تحققها الثورة بعد؟

مالم يتحقق من أهداف الثورة لا أستطيع حصره.. ولكن أهم هدف حققته ثورة 25 يناير هو أنها أثبتت أننا قادرون على صنع ثورة بهذا الحجم، وثانيا: نجحنا في إسقاط جدار الخوف.. ونزع السلاسل عن القلوب والوجدان والأيدي واللسان.. لم يعد الآن أحدا خائفا.

.. حين قامت الثورة فوجئت بأن الكثير من رموزها من الشباب شديدي الغرور، ولهم صدور خرسانية.. أي أنك حينما تطرقين باب قلبه أو عقله لا يستمع إليك.. ويعتقد هذا الشباب أن ثورته جاءت بوعيه هو!! وفكره هو!! ونضاله هو فقط!! وأن الأجيال التي سبقته كأنها لم يكن لها تاريخ وهذا من أكبر الأخطاء والجرائم!! لولا نجيب محفوظ لما ظهر جمال الغيطاني وإبراهيم أصلان وخيري شلبي وإبراهيم عبد المجيد وعلاء الديب.. ولولا عبد الله النديم لما ظهر فؤاد حداد ولا صلاح جاهين ولا الأبنودي ولا سيد حجاب، ولولا نضالات كل من ناضل من قبلنا لما وجدنا هذه اللغة التي نخاطبك بها الآن.. فهذه اللغة التي نتكلم بها ليست لغتي ولكنها لغة موروثة من نضال أناس سبقونا وماتوا شهداء. ونحن بدورنا كتبنا كل قصائدنا التي نشرت في السنوات الماضية.. ألم تساهم في اضاءة الطريق نحو الثورة لهؤلاء الشباب!؟

في رأيي من أكبر أخطاء الشباب الثوريين أن كل شاب منهم يتصور أنه زعيم! وهذا خطأ كبير.

*****

يوسف شعبان

كان الأبنودي من الذين يقرأون بنهم، ويكتبون بنهم، ويعيشون الحياة بكل أشكالها، فأصدر ديوانه الأول في منتصف 1964، وكتب له دراسة نقدية مطولة سيد خميس، وكان عنوان الديوان “الأرض والعيال”، وكتب أغنيات كثيرة، بعدما نجحت أغنية “تحت الشجر يا وهيبة.. ياما كلنا برتقان”، فكاد عبد الحليم يحتكره، ولكنه استطاع أن يفلت من قبضة المطرب الواحد، فكتب عن آخرين، بكل طاقة العشق التي ينطوي عليها للوطن وللحياة. وبرغم السجن ظل الأبنودي عاشقا، وعندما خرج مع رفاقه بعد عدة شهور، أي في مارس 1967، وكان ذلك لأن عددا كبيرا من المثقفين المرموقين ضغطوا على الدولة للإفراج عن هؤلاء الأدباء، وكان جان بول سارتر في زيارة إلى القاهرة، ولكنه ربط زيارته هذه بالإفراج عن هؤلاء، وبالفعل تمّ الإفراج عنهم، لهذه التدخلات العديدة والفاعلة. وجاءت هزيمة 1967، ليساهم الأبنودي بكل قواه وطاقته في تحريض الجماهير على الانتصار، ومواصلة ما قصّرت فيه اللحظة، ونسي الأبنودي في تلك اللحظة، كلّ الأحزان التي كانت بينه وبين السلطة، فكتب أغنيته الشهيرة، والتي ما زالت تدّوي حتى الآن فى كل المناسبات الوطنية، وهي: “أحلف بسماها وبترابها / أحلف بدروبها وأبوابها / أحلف بالقمح وبالمصنع / أحلف بالمدنة وبالمدفع / بأولادي وأيامي الجاية / ما تغيب الشمس العربية / طول ما نا عايش فوق الدنيا”

وكتب في تلك اللحظة أجمل وأهم أغانيه، كان جنون الجرح يطارده، وجنون العشق كذلك، لم يستطع حجب الروح عن التعبير عن الجرح العام والشخصي، وكتب الأبنودي كثيرا حول الإهانة التي كان يشعر بها عندما حدثت الهزيمة، وأصدر ديوانه الثاني في نوفمبر 1967، أي بعد الهزيمة مباشرة، وكان مفعماً بهذا الحزن الشفيف، هذا الحزن الذي لا يسلمه للإحباط، ولكن للتأمل، والنهوض، والمقاومة، فكتب للسينما، وتعاون بكل قواه وثقافته مع كل الجهات، وعلى رأس هذه الجهات الدولة الوطنية، والتي لم تكن بعد قد رفعت شعارات السلام، التي انتهت باتفاقية كامب ديفيد، والتي هاجمها بضراوة، برغم الاستدعاءات الكثيرة التي كان السادات يحرجه بها.

جاء ديوانه الثاني “الزحمة”، لا ليضع الأبنودي ضمن الشعراء الشعبيين والوطنيين فحسب، بل وضعه فى مقدمة الشعراء المصريين عموماً، وهو على كثرة ما كتب، كان يحفظ للشعر فنياته وتقنياته وآلياته الفنية الراقية، دون أن ينزلق من سماء الشعر، إلى منحدر الشعار، فلم يهتف، ولم يصرخ، الا عندما كانت الدنيا تظلم تماماً.

وهذا حدث في مراحل كثيرة، كان أبرزها المرحلة التي حكمت فيها جماعة الإخوان المسلمين الوطن المصري، في عامي 2012 ـ 2013، فراح يطارد النظام يومياً، وكانت زجلياته التي أسماها “مربعات”، تعمل عمل الهتّاف السياسي، والمحرض الجماهيري، بشكل سافر، كانت قصائده القصيرة، أو قل رسائله تصل إلى الناس بسرعة فائقة، تحمل قدراً من الغضب. وبرغم هذا الغضب الذي كانت تحمله هذه المربعات، كانت تتخللها مساحات من التأمل والخبرة الفلسفية العميقة، والتي كان الأبنودي يتقن دسها، وخلق نوع من التواشج بينها وبين كل المشاعر التي تجتاحه وتجتاح عموم الناس والشعب. الأبنودي عاشق الوطن والناس والحياة، الذي ظل سنواته الأخيرة يتوكأ على عصاه، كان عاشقا لأمه، وللمرأة عموماً، وكانت علاقته بابنتيه آية ونور في غاية الرقي والحميمية، وكذلك زوجته الرقيقة، والإعلامية نهال كمال، التي تحمّلت جبالاً من التعب والمشقة لمتابعة حالة الأبنودي الأخيرة.

Exit mobile version